الدكتور عبد المنعم سعيد مفكر وباحث وكاتب جاد، يتسم بروح المسئولية إلي الدرجة التي جعلت مني صديقا له، غير أن صداقتنا لا تعني أن أغفر له أخطاءه العلمية أو عدم الالتزام بالدقة في البحث وهو ما لاحظته مؤخرا في حديثه عن الفنكوش وذلك في معرض هجومه الدفاعي عن أمانة السياسات بالحزب الوطني. في إيجاز شديد أوضح أن الناس تتخيل قدرات وصلاحيات وأفعال غير حقيقية لهذه الأمانة،فكل القرارات التي صدرت في الفترة الأخيرة، تبادر إلي أذهان الناس علي الفور أنها من صنع أمانة السياسات، وكأنها الأمانة الوحيدة المتحكمة في القرار السياسي في مصر، هناك ميل شبه غريزي جمعي عند الناس يجعلهم يتخيلون شيئا لا وجود له تماما مثل الفنكوش الذي تكلم عنه عادل إمام. هو باختصار كما فهمت يريد أن يقول أن هذه الأمانة وهو عضو فيها ليست مسئولة بالحتم عما صدر من قرارات سياسية في الشهور الأخيرة، وأنا أوافقه علي ذلك.بل ربما وافقته أيضا علي تحليله بأن هذا الأمر بمثابة فنكوش لا وجود له، غير أنني كنت أتوقع منه كباحث أن يتساءل: تري لماذا صدقت الناس هذا الفنكوش. من أي جزء في العقل نبع هذا الفهم أو هذا الفنكوش؟ سأتعرض لذلك بعد قليل ولكني الآن سأستعرض بعض الأخطاء التاريخية التي وقع فيها الدكتور عبد المنعم بحسن نية، صحة الكلمة كما ظهرت في بداية الستينيات من االقرن الماضي، هي الفنكيش وليس الفنكوش، ولم يكن اسما لشئ وهمي أو متخيل، بل هو اسم اصطلاحي لكل المواد الخام التي كانت تستخدم من أجل الفرفشة والنعنشة في السهرات الخاصة، ومعلوماتي أن قائلها هو صلاح السعدني أو بالدقة كان هو الوحيد الذي كان يكثر من استخدامها..كما تري، الكلمة تمثل اصطلاحا خاصا بجماعة صغيرة مغلقة أشبه بال Jargon ولكنها بالتأكيد تشير لشئ له وجود يعرفه من يتعامل مع الكلمة. أما ما يقصده الدكتور عبد المنعم فهو ( الشعكبوس) وهي الكلمة التي ظهرت في بداية الألفية الثالثة، والتي يحتفظ كاتب هذه السطور بكل الحقوق الناتجة عن ملكيتها، وهي باختصار تدل علي شئ لا وجود له تتعامل معه الناس بوصفه موجودا بغير أن تتوقف لحظة واحدة للتساؤل عن ماهيته أو كنهه أو مواصفاته. ولقد شرحت في مقالات سابقة أهم الاستخدامات الشعكبوسية ومنها علي سبيل المثال أنا لا أعرفك وأنت لا تعرفني، نحن جالسان في مقهي، سنتبادل أطراف الحديث، اسمح لي أنا أن أبدأ الكلام ، سأقول : رأيت بالأمس سيدة محترمة ترتدي شعكبوسا أزرق ... إن منظر امرأة ترتدي شعكبوسا أمر يتنافي مع تقاليدنا .. الا تري أنه أمر فظيع أن يرتدي الإنسان شعكبوسا .. ما رأيك؟ هل توافق علي أن ترتدي امرأتك أو ابنتك أو إحدي قريباتك شعكبوسا ؟ الطبيعي والبديهي هو أن تسألني : ما هو الشعكبوس من فضلك ؟ ولكنك لن تفعل، فأنت لا تتصور أن يحدثك مخلوق بمثل هذه الجدية عن شئ لا وجود له، أنت تخشي أن تبدو جاهلا أمامي، ستسايرني علي أمل أن تعرف ما هو الشعكبوس من خلال الحديث بيننا، ستقول لي : أنا شخصيا لي موقف قديم من الشعكبوس.. لقد كان شرطي الأول علي زوجتي في فترة الخطوبة هو ألا ترتدي شعكبوسا.. ولقد تدخل أهلها في الأمر لإثنائي عن موقفي ولكني أصررت علي ذلك وحتي الآن لم يدخل الشعبكوس بيتي.. أنا معك بالطبع أنه أمر مقزز أن تري في الشارع سيدة ترتدي شعكبوسا أزرق، ولكني في هذه الحالة أكتفي بالنظر إلي الناحية الأخري.. في تلك اللحظة سيتدخل واحد من الجالسين بالقرب منكما ويقول: هل تتصور أن ذلك هو الحل.. أن تغمض عينيك عندما تري شعكبوسا..؟ يا جماعة ما لم يتصد المجتمع لظاهرة انتشار الشعكبوس هذه الأيام، سوف يصاب هذا المجتمع بكارثة كبري عما قريب. وتتسع دائرة الحوار وينضم لكم آخرون وعندما تغادرون المقهي ، ستكون فكرة جديدة قد جمعت بينكم. امش معي خطوة أخري، أنت في بيتك الآن، تناولت طعام العشاء، وبدأت في مشاهدة تمثيلية تليفزيونية مسلسلة تدور حوادثها حول عصابة تقوم بتهريب الشعكبوس ورجال الشرطة يطاردونها، وفي الصباح تقرأ مقالا يعدد أخطار الشعكبوس، وعلي الصفحة الأخري تقرأ مقالا آخريحاول فيه صاحبه أن يبين أن الشعكبوس ليس ضارا عندما يستخدم بغير إفراط.. وفي صفحة الحوادث ستقرأ خبرا عن القبض علي صاحب مصنع متلبسا بغش الشعكبوس. وربما تقرأ علي الصفحة الأخيرة خبرا عن مفكر كبير رفض جائزة الشعكبوس الذهبية. في هذه اللحظة سيكون للشعكبوس وجود فعلي في حياتك، وجود فعلي ( صادق ) في عقلك يحتل مكانا صحيحا في تفكيرك، هكذا تحدث عملية التكاذب بين الجميع، والويل كل الويل لمن يجرؤ علي السؤال : ما هو الشعكبوس يا سادة؟ والآن أعود إلي ما بدأت به مقالي، من أي جزء في العقل تنبع تلك الرغبة أو التصور بأن أمانة السياسات هي المسئولة عن القرار السياسي في مصر الآن؟ استحملني قليلا وستكتشف عجبا، إنه ذلك الميل القوي ( Tendency) المركب داخل العقل الذي يتوقع الخير من قدوم( الواردين) القادمين، إنه نفس التوقع الذي ينتج عنه تلك القدرة المذهلة علي انتظار إمام غائب سيتولي إصلاح الأمور ، هذا الإمام الغائب هو نفسه المهدي المنتظر، وهو نفسه مسيح آخر الزمان وهو أيضا الاحتفال السنوي عند المصريين الذي كان المصريون يبكون فيه وينوحون في انتظار عودة أوزوريس الغائب، لقد مات.. قتل.. غير أن اللاوعي الجمعي تخيل أن إيزيس جمعت أجزاء جسمه من علي طول الوادي وصنعت من ذلك أسطورة، ولذلك سيعود حتما حيا لينشر العدل والرفاهية. من الغريب أن هيرودوت في وصفه لهذه الظاهرة تكلم عن ( جماعة أجنبية) لم تكن تكتفي بالبكاء واللطم بل كانت تضرب صدرها وتجرح وجهها. كما تري، هي حيلة من العقل البشري لاستمرار الحياة النفسية للإنسان سليمة في ظروف يغيب فيها الأمل وتشتد فيها تعاسة الناس. هناك مخلّص بعيد سيأتي حتما لينقذهم من كل متاعبهم، ولذلك سيقول المثل الشعبي المصري ( الشيخ البعيد سره باتع) كلما كان الشيخ بعيدا كلما كانت الرحلة إليه ممتعة ومريحة. هذا هو بالضبط الجزء من العقل الذي نبعت منه فكرة أن أمانة السياسات هي صاحبة كل القرارات هذه الأيام، هو تفكير بالتأمل، أنا شخصيا عندما أعرف أن قرارا يتفق والتوجه إلي الحرية السياسية والاقتصادية وحقوق الإنسان الفرد، قد صدر أسارع بالقول: أيوه... لجنة السياسات هي اللي ورا القرار ده. وعندما ألاحظ أن قرارا سخيفا قد صدر أقول لنفسي: الله... إزاي لجنة السياسات توافق علي الكلام ده.. ؟ غير أن الدكتور عبد المنعم أضاء لي مساحة كبيرة من تفكيري عندما قال إن أعضاء أمانة السياسات ليسوا جميعا من أصحاب التوجه الليبرالي ففيهم عدد كبير يؤمن بالاقتصاد المخطط. وهنا أقول: إنه نفس المنهج القديم إذن... وهذه القبة ليس تحتها شيخ، بل شئ آخر. إنه نفس المنهج القديم الذي يحتم أن تضع قدما علي دواسة البنزين وقدمك الأخري علي الفرامل لكي تضمن ألا تتحرك خطوة واحدة إلي الأمام في الوقت الذي يتناقص فيه وقودك باستمرار. تدعيم السلام، الاتجاه بحزم ووضوح إلي الاقتصاد الحر، عدم الاستسلام لابتزاز الاتجاهات السلفية، المزيد من الاهتمام بحقوق الإنسان الفرد، نحن عرب ونحن أفارقة ونحن بحر أبيض أيضا، ولذلك علينا انتهاز كل فرصة لدعم علاقتنا بالغرب... أي محاولة لمجاملة الاتجاهات التخريبية لن ينتج عنها أي خير للمصريين... نحن دولة في منطقة تنهار فيها الدولة، وعلينا الحفاظ علي هذه الدولة لكي نثبت أننا نستحقها. هذا هو ما يجب أن تفكر فيه أمانة السياسات وسوف يكون من الخطر أن تفكر في شئ آخر. أعرف أن الحقائق بطبيعتها مؤلمة وأنها لا تعجب الجماهير غير أنها بالقطع تحميهم، لا نريد أبطالا شعبويين، نريد أناسا شجعانا يغذون الناس بالحقائق وحدها.. وسيكون المكسب والانتصار من نصيبهم في نهاية النهار.