نتيجة لقرار مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة النووية بتحويل ملف إيران إلي مجلس الأمن باعتبارها مخالفة لبنود معاهدة حظر الانتشار النووي _ تقترب إيران الآن من محطة الدبلوماسية الأخيرة لتنتقل بعدها إذا فشلت الجهود إلي مرحلة جديدة مختلفة تتوقف نتيجتها علي ما تملكه إيران من عقل وقدرات عسكرية وعلاقات دولية. لقد اتخذ مجلس المحافظين (35 عضوا) بأغلبية 27 ضد 3 قرار تحويل ملف إيران علي أن يتم إبلاغ مجلس الأمن بالقرار في مارس القادم لإعطاء إيران فرصة أخيرة لمراجعة موقفها. والجديد أن روسيا والصين صوتتا في صالح القرار، وكانتا وراء قرار تأجيل الإبلاغ إلي شهر مارس. باختصار القرار تم اتخاذه بتأييد من الدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن، وهو المطلوب لتجنب أية مشاكل في مجلس الأمن بعد ذلك. لأنه بدون تأييد جميع الدول الخمسة، من المحتمل أن يتعرض الملف إلي فيتو من الدولة التي لم توافق عليه في مجلس المحافظين. يعتبر تحويل ملف إيران إلي مجلس الأمن تحولا جوهريا في مشوار بدأ منذ حوالي سنتين ونصف، عندما اكتشفت الوكالة عن طريق الأقمار الصناعية أن إيران تمتلك منشآت نووية لم تبلغ الوكالة بها كما تنص المعاهدة؛ وبتفتيش هذه الأماكن بواسطة خبراء الوكالة وجدوا داخلها أعدادا كبيرة من أجهزة تخصيب اليورانيوم. وبرغم أن معاهدة منع الانتشار لا تمنع عملية التخصيب حتي حدود معينة، إلا أن ذلك لا بد أن يتم تحت إشراف الوكالة. وعدم التبليغ أو التأخير فيه يُعتبر "مخالفة" يمكن أن تؤدي إلي إبلاغ مجلس الأمن، أو التغاضي عن ذلك، وفقا لتصرفات الدولة بعد ضبط المخالفة، ومدي ما تقدمه من مبادرات لبناء الثقة مرة أخري مع الوكالة ومع المجتمع الدولي. وهذا ما حدث خلال السنتين ونصف الماضيتين، فقد كان الأمر سجالا بين إيران من ناحية والوكالة والدول الأوروبية من ناحية أخري، من أجل إقناع إيران بتعليق عملية التخصيب بصفة دائمة، ودخلت علي الخط روسيا مؤخرا بعرض إجراء التخصيب علي أرضها لصالح إيران، لكن إيران عارضت كل ذلك، واستأنفت عملية التخصيب، ولم توافق علي العرض الروسي. فرجع الأمر مرة أخري إلي مجلس المحافظين في 4 فبراير 2006، الذي اتخذ قراره بتحويل الملف إلي مجلس الأمن مع إعطاء إيران فرصة أخيرة حتي مارس القادم. أمام إيران الآن اختيار واحد من سيناريوهين. السيناريو الأول يمكن أن نطلق عليه "سيناريو المواجهة". ويقوم هذا السيناريو علي تجاهل قرار مجلس المحافظين وما قد يترتب عليه في مجلس الأمن، وتحمل مشوار العقوبات بعد ذلك، والبدء في بلورة سياسة عدائية مع من صوتوا ضدها في مجلس المحافظين ومجلس الأمن، والنظر في اتفاقيات إمدادهم بالنفط والعلاقات التجارية معهم. وبالتوازي مع ذلك وضع ضغط علي الولاياتالمتحدة في العراق بصورة تجعل تخفيض القوات الأمريكية هناك غير ممكنا، مع تفعيل تحالفاتها الإقليمية مع دول مثل سوريا لجعل هذا الضغط علي أمريكا مؤثرا. ويشتمل هذا السيناريو علي إشعال الشارع الإسلامي من خلال الحديث عن إزالة إسرائيل من الوجود، وعقد مؤتمرات عن الصهيونية وحقيقة المحرقة اليهودية، وتقديم دعم للنشاط الإرهابي، مع الاستعداد عسكريا للرد علي أية محاولة لضرب منشآتها النووية. وقد يتضمن هذا السيناريو وقف عمليات تفتيش الوكالة وصولا إلي إعلان الانسحاب من المعاهدة في نهاية الأمر. هذا السيناريو يتطلب تضحيات كثيرة ومهارة دبلوماسية وصلابة داخلية، ويتطلب أيضا تنسيق المواقف مع دول لها نفس المصالح الإيرانية وعددهم الآن قليل. وأتصور أن إيران قد تتحمل المقاطعة الاقتصادية لفترة طويلة، كما أنها قد تنجح في المناورة بالنسبة لأنواع المقاطعة الأخري، لكن سلاحها الحقيقي سيكون في محاولة إثارة شعوب المنطقة، واللعب علي أفكار ازدواجية المعايير، والصراع العربي الإسرائيلي. من مزايا هذا السيناريو أنه قد يتيح لإيران العمل بعيدا عن قيود تفتيش الوكالة، والإسراع في تطوير برنامجها النووي، وفي هذه الحالة لن تتردد إيران في تطوير القنبلة إذا كانت الحرب قدرا مفروضا عليها في النهاية. وعيب هذا السيناريو أن الخروج منه سيكون صعبا، خاصة إذا رغبت الولاياتالمتحدة في توريط إيران كمقدمة ضرورية لضرب منشآتها النووية. السيناريو الثاني يمكن أن نطلق عليه "سيناريو التفاوض"، وهو يقوم علي تعظيم المكاسب الإيرانية من خلال توصيل الأمر إلي قرب "حافة الهاوية" ثم التراجع والقبول بما تم تحقيقه حتي الآن. هذا السيناريو يمكن أن يضمن الحفاظ علي البرنامج السلمي الإيراني، ويعطي لها فرصة تخصيب اليورانيوم في روسيا في إطار ضمانات معينة، ويفتح الطريق أمام مبادرات أخري تجارية وثقافية وربما تحسن في العلاقات الدبلوماسية بينها وبين الولاياتالمتحدة، وإعطاء إيران دور إقليمي يتناسب مع حجمها ومع التحديات التي تواجه أمن واستقرار الإقليم. وهذا السيناريو يحظي بدعم من روسيا والصين، ويعطي البلدين دورا مؤثرا في السياسات المتصلة بالشرق الأوسط، ويكسر الاحتكار الحالي الأوروبي والأمريكي. ومن المعروف أنه قد أصبح للبلدين خبرة في هذا المجال لاشتراكهما معا في معالجة مشكلة كوريا الشمالية النووية. وبشكل عام لن تكون أمريكا بإدارتها الحالية سعيدة بهذا السيناريو، وكذلك أوروبا بدرجة أقل، وأقلهم حماسا ستكون إسرائيل. ولن يسعد أمريكا وإسرائيل إلا استمرار إيران في العناد حتي ينجحا في دفع الأمور إلي حافة العقوبات أو الحرب. من مزايا السيناريو الثاني أن له آفاق رحبة. فمجرد نجاحه سوف يعني الانتقال إلي مبادرات أخري أكثر تفاؤلا علي مستوي عملية السلام في الشرق الأوسط، واستقرار الأوضاع في العراق وأفغانستان، ودعم مشاريع الإصلاح وبناء الثقة بين الشمال والجنوب، وإثراء الحوار بين الغرب والشرق، وفي كل هذه العمليات سيكون لإيران دور كبير ومؤثر. وهذا السيناريو أمامه فرصة جيدة للنجاح إذا قبلت إيران بالعرض الروسي، وفي حالة الانحراف عن هذا السيناريو واختيار السيناريو الأول سوف تتحمل منطقة الشرق الأوسط تكلفة سياسية واقتصادية عالية لن يقتصر ضررها علي إيران بمفردها. لذلك أصبح من الضروري أن تنتقل دول المنطقة المؤثرة مثل مصر وتركيا والسعودية من موقع المراقب إلي موقع الفاعل والمبادر. ومن الغريب أن الأمر متروك حتي الآن لبريطانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا والصين كأن الأمر لا يعنينا، مع أن الصدام بين إيران والغرب سوف ينتقل إلينا بطبيعة الحال في صور مختلفة، كما يجب أن ننظر إلي مستقبل الطاقة في العالم ومدي حاجتنا إلي الطاقة النووية علي المستوي الوطني والإقليمي في المستقبل. إن مصر بمبادرة من الرئيس مبارك ودعم من الجامعة العربية يمكنها أن تدعو لمجموعة عمل إقليمية Task Force لدراسة الموقف الإيراني وتحديد موقفنا منه، وربط ذلك بالمبادرات الأخري لإخلاء المنطقة من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل بصفة عامة. إن مشكلة إيران الملتهبة يمكن إذا تعاملنا معها بمسئولية وخيال خلاق أن تمثل البداية لإعادة التفكير في بناء منظومة الأمن والتعاون الإقليمي لحل مثل هذه المشاكل داخل إطار مؤسسي قبل أن تتفاقم وتنفجر وتصيب الجميع بشظاياها وحممها. إن كل يوم يأتي يثبت أن نظرتنا للجغرافيا قاصرة بصورة تجعلنا ندفع ثمن أمور نعتبرها خارج إطار اهتمامنا ثم نكتشف بعد ذلك أننا مضطرون للتعامل معها بعد أن يكون الضرر قد وقع. إن إيران دولة إسلامية مؤثرة، ولها حضارة ونسب متصل بالمنطقة العربية، كما أن لها صلات ومصالح أيديولوجية ودينية في معظم دول المنطقة، وبالتالي سوف يكون سقوطها زلزالا مروعا للجميع. ومن هنا تأتي ضرورة أن يسمع العالم صوتنا في الموضوع، وأن نجعل من ذلك بداية جديدة لفكر أمني إقليمي شامل حتي الا نترك مصير أمن منطقتنا في أيدي الآخرين.