يجهل العالم الكثير عن المائة والستة وثلاثين ميلا مربعا التي تشكل قطاع غزة الواقع بين مصر وإسرائيل وربما لا يكترث له كثيرا. ويعد القطاع واحدا من أكثر المناطق كثافة في العالم من حيث عدد السكان إذ يؤوي نحو 3.1 مليون فلسطيني، منهم 76 في المائة لاجئون (مقارنة مع 37 في المائة في الضفة الغربية). ومعظم الناس في القطاع يعيشون في مخيمات اللاجئين الرثة والبائسة والتي تضيق بسكانها وهم يعانون من نقص المياه وباقي الضرورات الحياتية. هذا في حين تعتبر البطالة مرتفعة جدا ومظاهر التباين الاجتماعي عظيمة وجلية، حيث يسكن بعض سكان غزة الأثرياء في بضعة منازل كبيرة، ولذلك فمستقبل القطاع المعزول عن الضفة الغربية يظل مجهولا. في شهر أغسطس الماضي نجح رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون في حمل 8000 مستوطن إسرائيلي علي الانسحاب من قطاع غزة حيث كانوا يبسطون سيطرتهم علي ما يقارب 40 في المائة من مساحة القطاع. ولعدة عقود كان نمط الحياة الذي يعيشه هؤلاء المستوطنون، مقارنة مع نمط حياة الفلسطينيين، يذكر دائما بنظام التمييز العنصري السائد سابقا في جنوب أفريقيا. وقد كان يفترض أن يتم الانسحاب من قطاع غزة قبل وقت بعيد من الآن، حيث أغلبية الإسرائيليين كانوا يعتبرون المستوطنين في قطاع غزة مصدر قلق ومتاعب لإسرائيل. بيد أن هذا الانسحاب لم يكن خطوة أولي علي درب التسوية التامة مع الفلسطينيين، كما يزعم كثير من الصحفيين الغربيين، حيث لم يخف شارون أمام مؤيديه وأنصاره تصوره الحقيقي للانسحاب الذي كان يعتبره وسيلة لتعزيز السيطرة الإسرائيلية غير القانونية وإحكامها علي الضفة الغربية. وقد احتفل الفلسطينيون بالانسحاب الإسرائيلي عبر تنظيم الاستعراضات والاجتماعات الجماهيرية الحاشدة التي قامت خلالها الفصائل المسلحة، الوطنية والإسلامية المتنافسة، باستعراض قوتها، وحاولت كل واحدة منها خطف الانتصار وادعاءه، زاعمة أن الفضل في حمل الإسرائيليين علي الانسحاب إنما يعود إليها. وفي وقت كان فيه سكان قطاع غزة يتطلعون بطبيعة الحال إلي غد أفضل وإلي ظروف يتم فيها وضع حد لأعمال العنف التي عاشوها طيلة عدة عقود تحت الحكم الإسرائيلي، وجدوا أنفسهم وسط أزمة متصاعدة سمتها الرئيسية الفوضي الأمنية وانتهاك القانون بسبب سعي الفصائل إلي تعزيز مواقعها في القطاع، ثم طفت علي السطح صراعات بين القادة المحليين وأنصارهم. وكان من نتائج ذلك أن تعرض الأجانب للاختطاف وتوقفت الاستثمارات في القطاع. وفقد الرئيس محمود عباس والسلطة الفلسطينية السيطرة علي الأوضاع، كما أن حركة "فتح" التي ينتمي إليها الرئيس عباس نفسه، غرقت في أزمة حادة، وباتت قاب قوسين أو أدني من الانهيار في وقت أضحي فيه استحقاق الانتخابات التشريعية الفلسطينية علي الأبواب. ومما زاد الطين بلة وساهم في استفحال الأزمة قيام إسرائيل الممنهج بالقضاء علي قوات الشرطة الفلسطينية في غزة وتدمير البني التحتية للمدينة كالمطار والميناء. ومن مظاهر الفلتان الأمني كذلك وحالة الفوضي التي يغرق فيها القطاع قيام مسلحين فلسطينيين بإضرام النار في صناديق الاقتراع المخصصة لاختيار من سيتقدم باسم "فتح" في الانتخابات البرلمانية. بل إن تدهور الأوضاع الأمنية وصل إلي حد صدور تهديدات بقتل المراقبين الدوليين الذين ينتظر أن يشرفوا علي الانتخابات. (وقد كنت أحد هؤلاء المراقبين في انتخابات سنة 1996). واليوم أكاد أجزم بأن حركة "فتح" التي يتزعم قائمتها مروان البرغوثي، المعتقل في أحد السجون الإسرائيلية، ستتعرض لعقاب شديد من قبل الناخبين الفلسطينيين الذين يشعرون بسخط وإحباط كبيرين إزاء ما آلت إليه الأوضاع في الأراضي الفلسطينية. وقد أشار استطلاع للرأي أجرته جامعة بير زيت إلي احتمال أن تحصل "فتح" علي 35 في المائة فقط من أصوات الناخبين، في حين توقع الاستطلاع أن تحصل حركة المقاومة الإسلامية "حماس" علي 30 في المائة، وهو الأمر الذي يمكن أن يعزي في جزء منه إلي أن حركة "حماس" ليست مرتبطة بإخفاقات السلطة الفلسطينية، كما أنها تحظي بسمعة يحسدها عليها الكثيرون كونها خالية من الفساد. وفي حال صدقت توقعات استطلاعات الرأي وحصلت حركة "حماس" علي نتائج جيدة في هذه الانتخابات، يتوقع أن تجزع إسرائيل وتتوجس، ومرة أخري سيكون علي الغرب أن يفكر في الطريقة المثلي للتعاطي مع الإسلام السياسي الذي بات يكتسح الساحة السياسية في كل من لبنان والعراق ومصر. وحتي قبل تحقق هذا الأمر (فوز حماس)، حذر رئيس الوزراء الإسرائيلي بالنيابة إيهود أولمرت أصدقاءه الأمريكيين من مغبة إجراء أي مفاوضات جادة مع الفلسطينيين في حال إمساك "منظمات إرهابية" ك "حماس" بزمام الحكم في السلطة الفلسطينية. ولذلك لا أتوقع أن يبدي إيهود أولمرت حماسا في الإقبال علي المفاوضات، ومما لاشك فيه أن "حماس"، التي قتل نشطاؤها المئات من الإسرائيليين في عمليات، ستستعمل ذريعة من قبل الإسرائيليين. شخصيا أري بأن مشاركة حركة "حماس" في عملية صنع القرار السياسي الحقيقي في هذه المرحلة أمر إيجابي ومفيد بالنسبة للفلسطينيين، فقد آن الأوان لتتم منافسة وتحدي حركة "فتح" التي ينخرها الفساد. ثم إن مشاركة وتقدم حركة "حماس" في العملية الديمقراطية سيكون له دور مفيد في تخليها عن العنف، ذلك أن الإمساك بزمام الحكم يخلق حس المسئولية. وعلاوة علي ذلك، فقد سعت "حماس" إلي تغيير لهجتها خلال الحملة الانتخابية، حيث دعت إلي القضاء علي الاحتلال الإسرائيلي عوض القضاء علي إسرائيل. من السهولة بمكان أن يكيل المرء الانتقادات اللاذعة للفلسطينيين بسبب تصرفهم في قطاع غزة بعد رحيل المستوطنين الإسرائيليين، وهو تصرف يبعث في الحقيقة علي الحزن والأسي، ويشجع الإسرائيليين وغيرهم علي الإيحاء بأن الفلسطينيين غير مؤهلين لإدارة شئون دولتهم. وأنا هنا أتفق مع تعليق نبيل شعث، وزير الخارجية الفلسطيني السابق حين صرح قائلا: "ينبغي النظر من سياق تاريخي إلي المجتمعات التي تخلصت من الآثار النفسية الجماعية مثل البوسنة وكوسوفو وإيرلندا الشمالية ولبنان والصومال والعراق. لقد احتاج لبنان إلي 25 سنة والواقع أنه لم يتخلص بعد في الواقع من تلك الآثار تماما". والمؤكد هو أنه بعد الانتخابات الحالية، سيكون ثمة دور مهم وواضح علي المجتمع الدولي أن يضطلع به، ذلك أن سكان قطاع غزة في أمس الحاجة إلي المساعدات والدعم الخارجيين. كما ينبغي في نفس الوقت علي الزعماء السياسيين الذين سيتم انتخابهم أن تكون في جعبتهم أشياء يقدمونها في سبيل العمل علي تحقيق الرخاء والتقدم لصالح القطاع وسكانه.