هناك بعض الكتب القليلة ولعلها النادرة التي تبقي بل وتزداد قيمة وتقديرا بمرور الزمن، تلك الكتب ليست مقصورة علي الإبداع الشعري والنثري فقط، بل لعلها تتضمن كافة فروع المعرفة والعلوم. يعد كتاب "تقويم النيل" الذي نشر للمرة الأولي عام 1914م، وهذه هي الطبعة الثالثة للكتاب (2009م) من هذا الكتاب. لعل الاطلاع علي العنوان التفصيلي للطبعة الأولي يكشف تلك المحاور التي تضمنها الكتاب في الداخل (مع العلم أن الكتاب في ستة أجزاء، وكل جزء حوالي 500 صفحة).. العنوان التفصيلي: (تقويم النيل.. وأسماء من تولوا أمر مصر ومدة حكمهم عليها، وملاحظات تاريخية عن أحوال الخلافة العامة وشئون مصر الخاصة عن المدة المنحصرة بين السنة الأولي وسنة 1332هجرية).. قال "د.أحمد زكريا الشلق" في مقدمته للطبعة الأخيرة: "يتفرد نهر النيل بين أنهار الدنيا.. تلك حقيقة أولية تتعلق بوجود مصر.. فبأي مقياس، نهر غير عادي، جيولوجيا، جغرافيا، تاريخيا وحضاريا.. وكانت تلك نقطة البداية في تفكير مؤلف الكتاب "أمين سامي باشا".والمؤلف سليل مدرسة تاريخية مصرية، تمتد جذورها إلي العصور الوسطي الإسلامية.. غير أن هذه المدرسة تطورت مع بداية العصر الحديث. وقد بدت الكتابة التاريخية متنوعة علي ثلاثة محاور (المؤرخين من العلماء) منهم ابن إياس والاسحاقي والشرقاوي، ثم الجبرتي الذي يمثل نقلة نوعية.. ثم جاءت (التراجم) التي نشطت في العصر العثماني، من كتابها العيني والزبيدي.. ثم جاء ما يعرف ب (الأجناد)، التي قدمت المعلومات التاريخية الهامة، ولكن بلا منهج محدد).أما المؤلف فقد جاء متأثرا بالمنهج العلمي الحديث.. كما جاء تابعا لمجموعة سابقة عليه اهتموا جميعا بتناول نهر النيل موضوعا لمؤلفاتهم.. إلا أنه يعد أفضلهم. قدم الكاتب لهذا الكتاب الضخم بمقدمة مطولة أوجز فيها هدفه من هذا الكتاب، التي هي التأريخ من خلال "النيل" مع عرض لمزيد من المعلومات حول "نهر النيل" كنهر قامت مؤسسات علمية علي خدمته منذ القدم.أما الجزء الأول منه، يشتمل علي عرض الفترة التاريخية من الفتح الاسلامي لمصر، حتي نهاية دولة المماليك.هنا يجب الإشارة إلي طريقة التناول التي عالج بها الكاتب موضوعه، في الجزء الأول وما بعده.. يقدم الكاتب تقويما للنيل من حيث تواريخ التحاريق (أي فترات انحسار المياه في النهر) وفترات فيضاناته (أي فترات زيادة المياه علي الجانبين أو ضفتي النهر)، ويسجلها علي يمين الصفحة، ثم في خانة إلي جانبها يسجل اسم الحاكم، ثم في الصفحة اليسري يسجل أهم الأحداث التاريخية في فترة هذا الحاكم. وفي الجزء الثاني، يتابع الكاتب مع فترة الحكم العثماني، مرورا بالغزو الفرنسي، حتي ولاية "محمد علي" علي مصر. وان تلاحظ أن الكاتب مر علي فترة الحكم العثماني سريعا، بينما أفرد لفترة حكم محمد علي 400 صفحة كاملة!عرض الكاتب في الجزء الثالث والرابع والخامس، فترة حكم الخديوي "عباس" و"سعيد" و"إسماعيل".. وان تلاحظ أن الكاتب رصد بالوثائق العديد من الأحداث الهامة مثل إنشاء السكة الحديدية والقناطر الخيرية وأوضاع الحكم في مصر وداخل الدواوين.. بينما قل رصده المتزامن لتقويم التحاريق والفيضانات التي اتبعها في الأجزاء السابقة. جاء الجزء السادس والأخير كملحق وثائقي، تحت عنوان "ملحق تقويم النيل عن الجسور والقناطر والكباري والخزانات علي النيل وفروعه بمصر والسودان، من فجر التاريخ إلي الآن". وربما أهم ما تضمنه تلك الخرائط التوثيقية والرسوم التوضيحية والجداول الإحصائية. وقد عبر الكاتب عن أهدافه من كتابه هذا قائلا: "أقدم هذا الكتاب للقراء والباحثين، ولم أرد بذلك إلا القيام بواجب العلم والتاريخ وخدمة الوطن العزيز"..وهو ما يمكن أن نخلص إليه، أن أهداف هذا الكتاب: أن الكاتب أراد أن يضع تقويم النيل مرتبطا بالحياة السياسية والاجتماعية للمصريين، من خلال رصد أهم منجزات فترات الحكام، وان اعتمد في معلوماته علي ما رصدته كتب سابقيه دون فحص أو تحليل.. وعلي الجانب الآخر يثير تساؤل القارئ حول الرابط الحقيقي والخفي بين حالة نهر النيل، سواء في نقصه أو زيادته، وحالة عموم الناس وحياتهم المعيشية. ترجع أهمية هذا الكتاب من حيث هو من المصادر التاريخية في موضوعه، أنه جاء معبرا عن نقلة حقيقية في الكتابة التاريخية. فقد يلاحظ القارئ أن أساليب الكتابة التاريخية القديمة، اتسمت باستخدام السجع، والألفاظ المثقلة بالمحسنات.. بينما أسلوب الكاتب بدا موضوعيا ومحددا ولا يعبأ كثيرا بالسجع والمحسنات. كما كان متميزا من حيث هو "كتابة في التاريخ"، بينما بدت الكتابات التاريخية فيما سبق، هي تسجيل للبعد السياسي فقط، اهتم الكاتب هنا في كتابه بالجانب الحضاري إلي جوار البعد السياسي في التأريخ.يبدو أن الكاتب "أمين سامي" جاء في كتاباته (خصوصا هذا الكتاب) تعبيرا عن محصلة مدرستين في كتابة التاريخ من قبله. مدرسة "الجبرتي" التي قدمت التاريخ كلغة ووقائع تناسب القارئ العادي وربما الساسة غير العارفين للغة العربية تماما (في زمنه).. ومدرسة "الطهطاوي" الذي قدم "الثقافة التاريخية" وقد أنشأ "مدرسة الألسن للترجمة" وخاطب من خلال لغته وأفكاره المثقفين أساسا (في عهده أصبحت مادة "التاريخ" من المواد الدراسية) لذا كان كتاب "تقويم النيل" مناسبا للقارئ العادي والمتخصص، وهو ما انتبه إليه وأشار في مقدمته المطولة.وهو أيضا ما انتبه إليه "دكتور أحمد زكريا الشلق" الذي قدم للكتاب، وأطلق عليه لقب "السفر الجليل"، حيث نختم بمقولته حول أهمية النيل عند المصريين: ".. كانت تلك هي نقطة البداية في تفكير مؤلفنا، حين اتخذ من النيل تقويما حوليا وركيزة أساسية للكتابة، ليس فقط عن أحواله، وإنما عن مجمل أوضاع مصر، الذي أنفق في تأليفه ما يزيد عن ربع قرن من الزمان".