ذهب "رولان بارت" إلي القول: إن الرواية عمل قابل للتكيف مع المجتمع، وأن الرواية تبدو كأنها مؤسسة أدبية ثابتة الكيان. لعله يعني أن الرواية قادرة علي التعبير عن الجماعات وأنها بالتالي من أكثر الأشكال الأدبية يملك صفة "الاجتماعي".المتابع لتقنيات وأشكال "الرواية" حتما سيتوقف أمام تلك التعددية والثراء التي أصبحت عليها الرواية بمضي الوقت أو لنقل بعد بلزاك. وهناك بعض الدوافع المؤثرة بعمق بحيث جعلت الروائي أمام ضرورة إضافة إنجاز جديد (وان بدا غير متعمد أو غير قصدي). وقد عدت العوامل التي أعادت تشكيل الرواية المعاصرة بأربعة عوامل وهي:الحرب العالمية الثانية.. الحرب التحريرية الجزائرية.. اكتشاف واستخدام السلاح الذري.. غزو الفضاء.ثلاثة من أربع عوامل لها علاقة مباشرة بالتجربة الحربية. فلم تهزم النازية إلا بعد احتلت كثيرا من الأقطار، ودمرت المدن الكثيرة عن كاملها، بل وقتل الملايين من البشر. وهو ما أحدث زلزالا في مفاهيم القيم التي يفترض ثباتها، وبالتالي توالت المفاهيم والأشكال وحدث تغيير في الكثير من الفنون والآداب ومنها "الرواية". أما حرب التحرير الجزائرية، فقد اقترن الميلاد الفعلي للرواية الجديدة بفرنسا متوازيا مع تأثير أخبار حرب التحرير في الجزائر..منها ثلاثة أعمال "ناتالي ثاروت"، وستة أعمال "الان روب جرييه"، كما نشرت مجموعة مقالات هامة "الكتابة تحت درجة الصفر" لرولان بارت، و"عصر الشك" لنتالي ثاروت".كما كان تفجير قنبلتي أمريكا الذريتين علي "نجازاكي" و"هيروشيما" آثرهما، فقد احترقت الأرض والسماء، وكل شئ علي الأرض في لحظات. فكانت أفكار نبذ القيم، الكفر بالزمان، التنكر للتاريخ، بل والاستسلام للعبث والقلق والعدمية والتشاؤم. وهكذا تأثر الروائي الجديد في روايته الجديدة. يعد هذا النوع من الرواية بات من أهم الأنواع في الأدب العربي المعاصر، نظرا للظروف التاريخية التي مرت بها بلدان الأمة العربية. منذ الكفاح من اجل التحرر الوطني من الاستعمار، ومع تلك الحروب العالمية والإقليمية التي اشتعلت علي ارض المنطقة:ولأن الحروب ليست دوما "حربا عادلة"، لكنها عند الكتاب دوما عادلة. وتلك المفارقة الطريفة تعود أساسا إلي تبني الكاتب إلي وجهة نظر الجماعة أيديولوجيا. فحرب العدوان الأوروبي علي البلدان العربية.. يتناولها العربي علي أنها غير عادلة، بينما الكاتب الأوروبي يعبر عنها علي اعتبارها عادلة! وتلك المفارقة نفسها هي التي وحدت بين جملة ملامح الرواية الحربية.. سواء للمعتدي أو المعتدي عليه.وربما جملة السمات في شخصيات الرواية الحربية تعبر عن الأيديولوجيا التي تحملها تلك الشخصيات، والانتصار هدفا يرجي في كل الأعمال مع التأهب لمواجهة الموت في كل وقت. هنا تبدو علاقة الرواية (الحربية) بالشخصية/ الشخصيات/ الأبطال بالمعني الفني والأيديولوجي.. علاقة مركبة:فالحرب (الإعداد لها- أثناءها- بعدها) بكل ما تضمنه الكلمة من تأثير ومؤثرات خاصة جدا.. تبدو وحدها "شخصية" لها وجودها الطاغي، وان لم نصفها بأوصاف البشر.كما أن شخصيات التجربة الحربية (كتجربة إنسانية) تتواجد في ذروة أحوالها وجواهرها، يتعامل الروائي إذن مع جوهر أناس حقيقيين من جانب ونتمني وجودهم دوما علي الجانب آخر. ولا يتحقق ذلك حقيقة حتي تغور في أعماق النفس والعقل إلا من خلال: الاسم والوصف ثم ملاحقة تلك الشخصيات ككائنات فاعلة وليس مفعولاً بها.والمقصود بالوصف هنا هو استحضار شخص ما أو شئ ما، وهو في المعاجم الفرنسية يعني "التعريف" إلا أن التعريف للأفكار والمفاهيم. بهذا التحديد ماذا نريد من الوصف في الرواية الحربية?أظن أن غلبة الوصف علي السرد قد يعطل التنامي الدرامي، ويشعر القارئ بالقلق.. بينما الوصف الواعي الذي يكتب لإضافة دلالة ما أو تمهيدا لحدث ما هو الأفضل. والفضل القول بالوصف السردي في مقابل السردي الوصفي. حرصا علي القارئ وتماسك وحبكة الرواية نفسها داخل زمانها ومكانها. بالتالي يعد "الحيز" أو تبسيطا "المكان" من أهم ملامح الرواية الحربية. فقد نبدأ رواية ما دون أن نقرا وصفا لحيزها الجغرافي، ولا نقلق علي فقدانه. بينما هذا الحيز يضيف دلالات ومعاني وخبرات إلي الكاتب والقارئ علي السواء. (يمكن الرجوع إلي كتاب "الحرب: الفكرة-التجربة-الإبداع" / السيد نجم/ سلسلة أدب الحرب- هيئة الكتاب المصرية.. حيث دلالات الأزمنة والأمكنة في الروايات الحربية، والتي أضافت التجربة الحربية إلي المواقيت والمساحات دلالات فنية وخاصة للرواية الحربية). والآن هل ندعي أن للرواية الحربية ضرورة أو أهمية لغلبة التناول التقليدي للشخصيات والوصف والحيز، وللتجربة الحربية وحدها قدرتها الخاصة علي إضافة دلالات جديدة للمألوف سواء في الشخصية والزمان والمكان? أظن أنه يمكن ذلك! فالشخصية الهامشية في الحياة والتي تبدو بلا دور فاعل في الحياة التقليدية، قد تصبح أنموذجاً للبطل المرجو..كما أن مواقيت الحرب "ساعة الصفر"، "فجر الحرية"، "الغد المنتظر" لها ولغيرها دلالات مضافة أثناء الحروب.. كما أن الأحداث التي تقع في أماكن قد لا نجدها إلا في بيئة أو حيز التجربة الحربية مثل "الخندق"، "السلاحليك"، "خلف خطوط العدو" وغيرها، لها دلالة قد لا نجدها إلا في رواية التجربة الحربية. مع ذلك فإن التناول الفني والتجريبي للتجربة الحربية مشروع، وقد نجح البعض في تحقيق ذلك، والتجريب ليس مرفوضا، لكنه حتما لا يحقق كل المرجو من وراء الرواية الحربية.. حيث تعضيد الذات وتقويتها، وكشف الآخر العدواني للوثوب علي نقاط ضعفه، ثم التوثيق للأجيال القادمة. فكل الأمم الخالدة هي الأمم صاحبة الذكري الخالدة المفعمة بالإنجاز والانتصار والتحقق. [email protected]