وجد الصبي نفسه جالسا علي العرش.. باغته موت أخيه ولي العهد.. فاجأه اعتزال والده السلطان واعتكافه حزنا علي ولده.. جلس الصبي علي العرش.. وعن يمينه تمرد وعن يساره مطامع.. أطل الغدر ورفع الحقد رأسه.. جَرَّأَتْ سنوات عمره القليلة كلَّ من يحمل ضغينة أو ثأرا أو مطمعا أو هوسا! حاول ابن الحادية عشرة - الذي أُعِدَّ أخوه المتوفي لولاية العهد - حمل الأمانة.. لكن صباه كان أسرع من محاولته.. فنقض المعاهدون معاهداتهم وتَمَرَّدَ الخاضعون وأقدمَ المتربصون. رأي الصبي السلطان بعين بصيرته دولته يتنازعها أعداؤها وتنهشها ذئاب الطمع.. فأرسل لأبيه يطلب منه العودة لمواجهة الخطر القادم.. رجاه أن يقف مدافعا عن السلطنة والعرش.. إلا أن الأب الزاهد في الحكم.. المفجوع بموت ولي عهده أرسل لولده السلطان الصبي قائلا: "الدفاع عن الدولة من واجبات السلطان...." وتساءل الصبي ذو الأحد عشرة ربيعا: "السلطان؟ من السلطان؟!" وعاد يرسل لوالده: "إن كنتَ أنت السلطان فعُدْ واجلس علي عرشك، وإن كنتُ أنا السلطان فإني آمرك بالعودة وقيادة الجيش". لم يستطع السلطان "مراد الثاني" سادس سلاطين الدولة العثمانية أن يخالف ولده ولي الأمر.. لم يستطع أن يغض الطرف عن جيش قوامه تسعون ألف مقاتل يزحف نحو السلطنة.. لم يتجاهل نقض العهود والارتداد والنكوص والاستهانة بدولته.. وأدرك أن صناعة السلاطين لا تتحقق بمجرد تمكينهم من العروش.. عاد ثانية عرشه.. وتولي شئون دولته.. في المساء كان يخلو لنفسه يطلق العنان لحزنه.. يسترجع ملامح "علاء الدين" ولده وولي عهده المتوفي.. يطلق العنان لعبراته.. يناجي الحبيب المرتحل ويرجو اقتراب يوم يجمعهما.. ويصبح الصباح ليخطو بثبات نحو عرشه ويتدبر أمور رعيته وجيشه ويعد العدة لمواجهة زحف الغدر القادم إليه.. اصطحبَ ولي عهده الذي كان سلطانا بالأمس.. وسعي نحو جيوش التحالف الأوروبي القادمة من بولونيا وألمانيا وفرنسا والبندقية وبيزنطة وبروجنديا والمجر بقيادة ملكها "لادسلاس" ناقض العهود.. في يوم لم يكن قد مضي علي انقضائه عام.. كان "لادسلاس" ملك المجر قد وقَّعَ مع "مراد الثاني" سلطان الدولة العثمانية معاهدة صلح أقسم فيها ملك المجر بالإنجيل وأقسم السلطان العثماني بالقرآن علي حفظ بنودها ماداما حيين.. وكانت المعاهدة تنص علي وقف القتال لمدة عشر سنوات بدءا من الثالث عشر من يوليو عام 1444.. إلا أن "لادسلاس" انتهز فرصة اعتزال السلطان "مراد الثاني" للانقضاض علي السلطان الصبي منتهزا فرصة قلة خبرته وضعفه.. فجهز التحالف الأوربي وزحف نحو السلطنة العثمانية. عبر السطان "مراد الثاني" مضيق البوسفور متكئا علي كتف ولي عهده الصبي.. مستمدا من بنوته زادا وقوة وعوضا عن الحبيب الذي راح.. زحف قاصدا قوات التحالف المتهجمة عليه.. ووصل "فارنا" ليلة السابع والعشرين من رجب سنة 848ه.. ونشبت في اليوم التالي (العاشر من نوفمبر عام 1444م) معركة هائلة حرص السلطان "مراد الثاني" علي أن يرفع خلالها وثيقة المعاهدة التي وقعها مع ملك المجر "لادسلاس" علي سن رمح ليشهد الجيشين ويذكرهما بنقض ملك المجر والأوربيين لها.. وتبارز هو و"لادسلاس" فقُتِل الأخير بينما فر قائد جيوش التحالف الأوربية "هونياد" تاركا خلفه جُلَّ جيشه أسري! عاد "هونياد" بعد أربع سنوات بحملة عسكرية أوروبية جديدة قوامها مائة ألف جندي ضد العثمانيين. اصطحب السلطان "مراد الثاني" ولي عهده الواقف علي عتبات الشباب متوجها نحو سهل "قَوْصوَة" المعروفة الآن باسم "كوسوفو".. كان السلطان يتنشق ريح "علاء الدين" ولي عهده المتوفي في ولي عهده الجديد.. يوما بعد يوم كانت ملامح الصبي تتشابه مع ملامح أخيه.. وكلما درج في مدارج الشباب كلما زاد الشبه حتي كاد يصل للتطابق.. إلا أن السلطان "مراد" لم يستعض عن هذا بذاك وظلت بالقلب حسرة وبالحلق غصة علي فراق الحبيب.. وصل جيش العثمانيين إلي "قو صوة" واحتدمت المعركة لثلاثة أيام متصلة (من 19:17 نوفمبر 1448) حسمها العثمانيون لصالحهم وفر "هونياد" ثانية تاركا خلفه سبعة عشر ألف قتيل وعشرات الآلاف من الأسري.. تعددت معارك السلطان "مراد الثاني" دفاعا عن دولته وتأمينا لحدودها.. وأشهد ولي عهده كيف يعتني ولي الأمر بأمور دولته فشيد المساجد والجوامع والمدارس والتكايا والزوايا ودور الضيافة والخانات والجسور.. ومهد الطرقات وأعد الجيوش وأرسل السفارات والرسل للممالك والإمارات المجاورة.. علمه كيف يعدل بين رعيته ليضمن ولاء الجميع علي تعدد مشاربهم وعقائدهم.. علمه كيف يفي بعهوده.. وكيف ينتقم ممن يخونون عهده.. كيف يجنح للسلم ولا يتردد في الحرب ما دامت لصالح دولته..وجاء يوم الثالث من فبراير عام 1451.. وشبح الموت يطوف في سماء "بورصة".. والسلطان مراد في عامه التاسع والأربعين.. حيث التقي الحبيب بحبيبه.. وارتاح الفؤاد المُعَنَّي وتخفف السلطان المكلوم من أعباء الحكم ومن تباريح الفراق وسعد بالتئام الشمل مع ولده "علاء الدين".. ودُفِنَ - كما أوصي - في مدينة "بورصة" في قبر عادي مكشوف لا تعلوه قبة! مات السلطان الزاهد في الحكم والحياة.. وعاد ولي عهده لعرشه ثانية.. ليصبح واحدا من أهم سلاطين العالم.. ومن غير "مراد الثاني" يستطيع أن يجئ بولد كمحمد الفاتح"الذي فتح القسطنطينية بعد ذلك بعامين؟ لكن.... تلك حكاية أخري...