كنت جالسًا في نقابة الصحفيين مع بعض أصدقائي نتكلم في أحوال الدنيا.. فجأة تنهَّدَ د. صلاح عبد الله، وقال: ياه! مصر فيها فلوس كثيرة! بتلقائية رد جمال أنور: كثيرة جدًّا. واصل د. صلاح: المرشحون ينفقون الملايين من أجل الانتخابات.. لو قلنا علي أقل تقدير 1000 مرشح سيصرف كل واحد منهم خمسة ملايين، يعني 5000 مليون جنيه.. تخيلْ لو هذا المبلغ استغل لبناء مدارس، سيحل أزمة. قال جمال: أزمة كبيرة. أكمل د. صلاح: سنقول المدرسة تتكلف 50 مليونًا، يبقي ممكن نبني 100 مدرسة.. والفصل فيه من 30 إلي 40 طالبًا، والمدرسة فيها 24 فصلاً.. احسب بقي. قال جمال: بدل أن يهدروا المال علي البلطجية. عقب د. صلاح: أنا حسبت فقط الذين سيصرفون 5 ملايين، ولم أحسب من سيصرفون مئات الآلاف. قال جمال: وعندي فكرة أخري تحل أيضًا هذه الأزمة، وهي أن يتحول بناء المساجد والكنائس التي كثرت بشكل كبير إلي مدارس؛ لأن المدارس هي التي تبني الدولة. ما إن سمع د. صلاح هذا الكلام، حتي اعترض بشدة علي مسألة الدين قائلاً: أنت بهذا الاقتراح ستفتح علي نفسك أبواب جهنم. سيقولون لك (وكشر د. صلاح في أداء تمثيلي، ونطقها بنبرة حادة): تريد أن تمنع دور العبادة؟! يا فاسق.. يا كافر.. يا مرتد!! ثم ضحك د. صلاح بملء فمه، بينما أصر جمال علي رأيه قائلاً: دعك من المتعصبين والأنانيين ومحبي الشهرة، وقل لي أيهما أهم: بناء دور عبادة كثيرة وروادها قليلون، أم بناء مدارس تحل كارثة؟ لم يكن كلام جمال ود. صلاح من باب تقضية وقت الفراغ أو الخوض في أخطاء الحكومة، وإنما كانا يتكلمان في حل لأزمة حقيقية تعاني منها كل دول العالم..عجبت كما عجب جمال ود. صلاح من أمر متعاطي المعارضة من الزعماء السياسيين المعارضين البارزين والشباب المضربين في مصر.. هم في الانتقاد والهجوم وتصيد الأخطاء عباقرة في اختراع الأفكار الشيطانية! ولكن عند تقديم الحلول هم مصابون بعقم وضمور فكري، فلم يفكر أحد منهم ولو مرة لله في مصلحة البلد. فهل المعارضة والزعامة والوجاهة السياسية قاصرة علي تطويل اللسان فقط؟ وشئنا أم أبينا، فإن الأمر شائك في هوجة وباء التعصب والاحتقان الديني المتفشي اليوم، وأنا كمسلم أري أن وزارة الأوقاف يجب أن تتدخل في هذا الأمر.. الحي الذي تبني به عشرة مساجد، لِمَ لا تكون خمسة، والخمسة الأخري مدارس، خاصة أن المساجد لا تشهد مصلين إلا في صلاة الجمعة، وبالتحديد وقت إقامة الصلاة؟ وزيارة سريعة إلي القاهرة القديمة تعرفنا أن المساجد التي تركها لنا التاريخ في فترات الحكم الإسلامي الطويلة لم تكن تزحم الدنيا بهذا الشكل، ولا ننسَ أنها كانت مدارس علم مثلما كانت دور عبادة. سيقول البعض: ولماذا لا تبني الدولة وهي تصرف الكثير علي ميزانيات مثل الرياضة، وتهمل التعليم؟ ولهؤلاء أقول: إن هذا "الكثير" الذي تصرفه الحكومة دليل علي أنها تصرف وتصرف، ولا تبخل كما يروج بعض المستفيدين من تشويه صورة الحكومة، وإن الرياضة ليست مجرد لعب وتسالٍ، فآلاف الأسر مصدر رزقها من الرياضة، بل إن كل دول العالم وحتي الفقيرة يتأثر اقتصادها بالرياضة بشكل مباشر وحيوي، وأنتم إنما شعرتم بهذا "الكثير" لأنه في مجال ليس بضخامة التعليم، وهل هذا "الكثير" شيء مقارنة بما تصرفه الدولة علي التعليم؟! ولنقل - وهو غير صحيح - إن الدولة شالت إيدها من الإنفاق علي التعليم، فهل سنقف مكتوفي الأيدي أمام قضية مصيرية كهذه، خاصة أننا لا نطلب من الناس التبرع أو الإنفاق علي الحكومة، وإنما نقترح علي منفقي الأموال بشكل مبالغ فيه أن يوجهوا أموالهم التي تبرعوا بها أو أهدروها لمصالحهم الشخصية بدعوي عمل الخير (في المساجد والكنائس)، أو خدمة المجتمع (في الانتخابات) إلي الصالح العام، خاصة أن المرشحين والمتبرعين كانوا من قبل يبنون فعلاً المدارس والمستشفيات. أليس في هذا مصلحة للجميع بحل أزمة تكدُّس أبنائنا في الفصول؟! أليس في بناء مدرسة ثوابان: صدقة جارية، وعلوم ينتفع بها؟ لا أظن أن مواطنًا واعيا يمكن أن يرفض المساهمة في بناء دولته ودولة أبنائه، وتوجيه إنفاقه للمال في الوجهة الصحيحة؟ إلا إذا كان له فيها مآرب أخري. أعلم أن كثيرين يزغرون لي بأعينهم، لكني أردت أن أنقل بأمانة حوارًا دار بيننا ورأيت أنه يستحق أن أنقله إلي متخذي القرار، فإن لاقي قبولاً فخير ونعمة، وإن تلاشت كأفكار كثيرة غيرها، أو اعترض أهل الخير، فلا تطلبوا من الحكومة أن تحل الأزمة.. لا تكبِّدوها وتكبِّلوها بالأعباء، ثم تقولوا لها "تصرَّفي"، وأنتم لا تريدون التصرف الذي لن يكلف أحدًا شيئًا.. لا تشتكوا.. وبوسوا إيدكم وش وضهر علي كربسة الأطفال في الفصول وانحدار التعليم. الحكومة ليست إلهًا يخلق ويرزق.. الحكومة بشر لديهم ميزانيات وإمكانات محدودة لا تفي بكل مطالبنا الأساسية. فلم لا نتكافل ليس من أجل الحكومة، ولكن من أجلنا.. من أجل أبنائنا.. ونصنع مصائرنا بأيدينا؟ وأذكركم بموقف لعبد الله بن المبارك عندما ذهب إلي الحج، وفي الطريق رأي امرأة تأكل ميتة، فأعطاها ما معه من مال، وقال: هذا أفضل من حجنا.