أصبحت كلمة .المواطنة. من الكلمات الأكثر طرحًا وتداولاً هذه الأيام علي ألسنة المثقفين، بل وعلي ألسنة العامة والبسطاء. ولعل السر في هذا الطرح الكثيف إحساسنا - بالفعل - بوجود مشكلة ما. أو تصاعد أحداث التوتر بين شركاء الوطن الواحد. والحق أن كلمة المواطنة تعني الشراكة العادلة في الوطن، والشراكة العادلة تقتضي الالتزام بنفس الواجبات والتمتع - أيضًا - بنفس المزايا والحقوق. ونحن - دائمًا - نحصر كلمة المواطنة في إطار ضيق ومحدود يتعلق بصور التفاعل بين المسلمين والمسيحيين؛ مع أن المواطنة أوسع مجالاً من هذا النطاق. فالفقر المدقع الذي يخيم علي الكثير من القري النائية، وعلي الأكثر من العشوائيات القاهرية يطرح ويثير - أيضًا - إشكالية المواطنة، فهؤلاء الذين لا يجدون الحد الأدني من الحياة الكريمة .سواءً من المسلمين أو من المسيحيين. تطولهم مشكلة المواطنة، لأنهم بالفعل لا يجدون نفس الحقوق ولا يتمتعون بالامتيازات التي يتمتع بها غيرهم من المواطنين الأعلي درجة في السلم الاجتماعي، ولا نقول الذين يجلسون علي قمة الهرم الاجتماعي الذي تسامت ذروته إلي حد بعيد، وتناءي سفحه إلي حد أبعد. وفي تصوري أن إثارة إشكالية المواطنة علي المستوي الديني يضر أكثر مما ينفع، فنقاط التماس والتقارب بين المسلمين والمسيحيين أكثر مما نتصور، والتفاعل الاجتماعي والاقتصادي بينهم أوضح ما يكون؛ فالمسيحيون المصريون أكثر انفتاحًا واختلاطًا وتفاعلاً مع الأغلبية المسلمة مما كان عليه اليهود - مثلاً - في حقبة ما قبل ثورة يوليو، وإحساس المسيحيين بقضايا المجتمع المصري وتفاعلهم معها علي المستوي السياسي والمدني ظاهر وملموس. بل وأقول إن المسلمين والمسيحيين يعانون من نفس المشكلات والأزمات التي تفرضها الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في مصر بنفس الدرجة تقريبًا. والحق أن المجتمع الإسلامي المتسامح الآخذ بتعاليم الدين الصحيحة يشجع علي التآخي والتعاون البنَّاء ولا يرفضه، ويتقبل التعايش مع غيره من الديانات متيحًا لها كل الحرية في ممارسة الطقوس والشعائر الدينية والتفاعل مع المجتمع. بينما لم تستطع المجتمعات الديمقراطية الغربية التي تفاخر بديمقراطيتها وحريتها وتسامحها الديني والعرقي أن تتقبل بصدر رحب التعايش مع الأقليات الإسلامية المُهاجرة، فلا تفتأ تضيق عليها الخناق وتفرض عليها القيود، وتُقَلِّص من عاداتها وأنماط حياتها الإسلامية، بل وتفرض عليها الثقافة ونمط الحياة الغربي وإن كان غير مقبول في إطار الدين الإسلامي. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلي أن مما يعضد التآخي الإسلامي المسيحي في مصر هو الاشتراك في الثقافة والعادات والتقاليد الشرقية التي تقوم علي احترام الطابع الأسري والعائلي، وتنازل الأفراد طواعية عن قدر من حرياتهم الشخصية إذا تعارضت مع المصلحة العامة، والتزام العفة والخلق الكريم في التعامل مع الإناث؛ فلا نجد شابًا سويا - مسلمًا أو مسيحيا - يتطرف في علاقته بالأنثي علي الحد الذي نراه في البلاد الغربية، كما أن المسلمين والمسيحيين - علي حد سواء - يحرصون علي تربية أبنائهم تربية تنأي بهم عن الأنانية، وتحثهم علي البذل والتضحية والعطاء. أما ما يثار عن إشكالية المواطنة في مصر فهو - في أغلب الوقائع - ناتج عن بعض الحوادث الفردية التي لا تُُعبر إلا عن ممارسيها، ولا يمكن - بحال من الأحوال - أن تُبلور اتجاهًا عامًا يسود البلاد بأكملها ويجعلها علي هوة فتنة طائفية أو دينية. نحن لا نستطيع - بحال من الأحوال - أن نقول إن في مصر تعصباً دينياً إذا تحدثنا علي المستوي الجماعي العام، لكننا لا ننكر أن هناك بعض المتعصبين دينيا في المسلمين والمسيحيين كليهما، وهذه الطائفة المتعصبة من الطرفين هي التي تُسَعِّر من جذوة الأحداث الفردية، وتؤجج الشرر البسيط المتطاير ليغدو نيرانا متأججة.