توصل الدكتور عماد الكاشف إلى أن التجربة الأثينية في نظام الحكم الديمقراطي والتجربة الإسبرطية في الحكم الارستقراطي لم تحققا أية تقدم بسبب أهدافهما الاستعمارية وقيامهما على فكرة استغلال الآخر ولكنهما بشكل عام حققا تقدما في مشوار الحريات إذ تفتحت أذهان الجماهير في المطالبة بحقوقهم ودورهم في المشاركة السياسية وإدارة شئون أوطانهم. وقد نال الباحث الدكتور عماد الكاشف درجة الدكتوراة بجامعة حلوان مؤخرا حول رسالته الهامة "تطور الفكر السياسي في أثينا وإسبرطة من 650 حتى 334 ق .م" بإشراف المؤرخ الكبير د. عاصم الدسوقي ، وقال أنه انشغل قبل قيام ثورة يناير 2011 بنحو عامين بتتبع أصول الديمقراطية في بلاد اليونان القديم وكيف أنها وصلت إلى صيغة توافقية للحكم الشعبي الديمقراطي انطلاقاً من أهمية تطبيق القانون الذي انتهجته هذه الحكومات الضاربة في أعماق التاريخ. واختار الباحث نموذجين من بلاد اليونان هما أثينا وإسبرطة لدراسة تطورهما السياسي في الفترة من 650 وحتى 334ق.م وفي خلال تلك الفترة حدثت نقلات نوعية في النظم السياسة في هذين البلدين حيث انتقلت أثينا من نظام الحكم الملكي إلى الحكم الارستقراطي إلى حكومة الطغاة وانتهت بالحكم الشعبي على حين توقفت إسبرطة عند مرحلة الحكم الارستقراطي. ومن هنا فإن مراحل التطور اختلفت في كل منهما وفقا للظرف التاريخي والوضع الاقتصادي والاجتماعي . مضمون الرسالة عالج الفصل التمهيدي إشكالية الجغرافيا كونها أحد العوامل الرئيسية التي تحدد الإطار السياسي للدولة فضلاً عن قيام نظام المدينة الدولة في بلاد العالم القديم بشكل عام وبلاد اليونان بشكل خاص ويطرح هذا المبحث سؤالاً هو لماذا كانت النظم السياسية الأقدم في كل دول العالم القديم دون استثناء ملكية؟ في تمهيد سريع عن النظام السياسي الملكي الأقدم في منطقة الشرق القديم بوجه خاص وشرق حوض البحر المتوسط بوجه عام. ويتناول الباب الأول "تطور الفكر السياسي الأثيني من 650 حتى 334 ق.م" في ثلاثة فصول كالتالي: يعرض الفصل الأول "تطور النظرية السياسية من الحكم الملكي حتى حكم الطغاة"، ابتداء من فكرة الملكية ثم انتقال الحكم إلى الطبقة الارستقراطية ثم ظهور طبقة التجار و توليها الحكم ثم أعقبتها حكومة الطغاة . ثم يأتي الفصل الثاني بعنوان "تجربة الحكم الديمقراطي"، ونستعرض من خلاله تشريعات كليثنيس وبركليس ودورها في مشوار الحريات وترسيخ مبادئ تطبيق القانون والاعتراف بحق العامة في المشاركة السياسية، كما نستعرض دور المشرعين والحكماء في الإصلاح المجتمعي فضلاً عن دور المجالس القضائية والشعبية في صناعة هذا التطور. وننتقل في الفصل الثالث إلى دراسة "تحولات الديمقراطية حتى ظهور مقدونيا" حيث نناقش فيه اخفاقات الزعامات السياسية والعسكرية من خلال طرح إيجابيات التجربة الديمقراطية وسلبياتها والمآخذ التي جاءت عليها وكيف تراجعت هذه التجربة ودور المفكرين والأدباء والفلاسفة في توجيه المجتمع فضلاً على تعرض هؤلاء إلى عقاب الدولة لهم ومحاكمتهم أحياناً بتهمة تأليب الجماهير حيث أنهم كانوا صناع المعارضة السياسية. كما تناولنا أيضاً قضية السياسة الخارجية وعلاقات أثينا بجيرانها على المستوى الإقليمي والمحلي وكيف أثرت وتأثرت بمن حولها وكيف انعكس ذلك على طبيعة نظمها السياسية الداخلية. أما الباب الثاني فيتناول نموذج دولة إسبرطة من خلال دراسة "تطور الفكر السياسي الإسبرطي من 650 وحتى 334 ق.م" ورصد هذا التطور من خلال ثلاثة فصول أيضاً جاءت كالتالي: الفصل الرابع ويتناول"التطور الدستوري ونظام الحكم الإسبرطي (650 - 404 ق.م)" بداية من الحكم الملكي ثم الانتقال إلى الحكم الارستقراطي واستعراض دستور المشرع ليكورجوس الذي كان نواة النظام السياسي الإسبرطي طول تاريخها ولم يتطور ذلك النظام حتى سقوط الإمبراطورية الإسبرطية . وجاء الفصل الخامس ليستعرض تحولات الفكر السياسي الإسبرطي بعد الحروب البليبونيزية، ومحاولة تكوين إمبراطورية توسعية على حساب الإغريق والتي استمرت لأكثر من ربع قرن ثم انهارت نتيجة سياسات إسبرطة القاسية والمتعجرفة في هذه المستعمرات. كما تناول الفصل السادس "تراجع الفكر السياسي الإسبرطي (من 371 حتى 334 ق.م) وسقوط الإمبراطورية الإسبرطية نتيجة لأسباب داخلية وخارجية أدت إلى انهيار نظام المدينة الدولة . نظرة جديدة على أثينا واسبرطة توصل الباحث أن جغرافيا بلاد اليونان تمثل أحد المقومات الأساسية التي شكلت بنية علاقتها الاجتماعية والاقتصادية وطبيعة نظامها السياسي على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي وبلورت سياستها الخارجية وساهمت بقدر كبير في ترسيخ نظام المدينة الدولة ،فضلا عن تحديد مستعمراتها وتكوين بنائها الحضاري، في حوض البحر المتوسط. وثبت بالدراسة أن الملكية في العالم القديم بوجه عام وبلاد اليونان بشكل خاص وفقاً لظروف الجغرافيا فضلاً عن أن الملكية كانت تقدم الحد الأدنى من الأمن والاقتصاد لشعوبها آنذاك وهذا ما يفسر لماذا بدأت النظم السياسية في التاريخ القديم ملكية. وتعتبر مدينة أثينا تجسيداً حقيقياً لمفهوم المدينة-الدولة حيث أنها أعرق وأقدم المدن اليونانية وكانت ملامحها التاريخية انعكاسا لتاريخ الإغريق السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحضاري. وقد رسخ نظام الحكم الارستقراطي في أثينا مفهوم المشاركة السياسية من خلال تقليص صلاحيات الملكية لصالح النبلاء الارستقراطيين ويرجع ذلك إلى تغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم انتقل الحكم من النظام الفردي إلى النظام الجماعي وبدا ذلك واضحاً من خلال مشاركة الأراخنة في إدارة شئون الدولة فضلاً عن إنشاء مجالس نيابية مثل مجلس الاريوباجوس ومجلس الشورى والتي ساهمت بدورها في تعميق المشاركة السياسية للمواطنين الأثينيين. أدى أسلوب الحكم الارستقراطي في أثينا إلى ظهور حركات التمرد والثورات الشعبية ضد هذا الحكم وكان ظهور طبقة التجار في أثينا أحد عوامل تغير النظام السياسي وقد جاء ذلك نتيجة تغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية وأصبح لهم الحق في المشاركة السياسية وإدارة شئون الدولة. كانت إصلاحات المشرعين أحد عوامل تطور المجتمع على الرغم من إخفاقاتها في بعض المراحل فكان يستلزم ذلك تطوير هذا التشريع أو ذلك القانون في كل مرحلة من مراحل تطور الفكر السياسي في أثينا سعيا إلى تحقيق الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية. فجاءت تشريعات سولون لتحقق نوع من الملائمة بين طبقات المجتمع الأثيني كخطوة على طريق الديمقراطية وكان وصول حزب الجبل الديمقراطي للحكم يعني مضي أثينا قدماً في مشوار تطور النظام السياسي نحو الحكم الديمقراطي فضلاً عن ترسيخ مبدأ تداول السلطة ، كما عبرت إصلاحات كليثنيس وبركليس عن ذلك التطور ورسخت مفهوم الديمقراطية و المواطنة حتى أصبح من حق المواطن الأثيني أن يحاكم رؤسائه وقياداته أمام مجلس الشورى عند انتهاء مدتهم الوظيفية . تراجع النظام السياسي في أثينا في القرن الرابع بسبب صراع الأحزاب السياسية على الحكم فضلاً عن تدهور الأوضاع الاقتصادية وظهور الأوبئة والأمراض كما تراجعت سياستها الخارجية ،وفقدت صفه الديمقراطية التي كانت تتمتع بها. أثرت آراء الفلاسفة والمفكرين في أثينا في تطور نظامها السياسي حيث شكلت كتابات هؤلاء بذرة صالحة لكل تطور يستهدف الارتقاء بالمجتمع ويحافظ في مساره على حقوق المواطنين ،و لم يخلوا الامر من اضطهاد أثينا في كثير من الأحيان للكتاب والمفكرين الذين حاولوا تغيير المجتمع وخير دليل على ذلك محاكمة سقراط ويشير ذلك إلى طبيعة البنية الثقافية في المجتمع الأثيني وعلاقتها بالنظام السياسي الذي كان يرفض كل ما يخالفه. اختلف نظام المدينة الدولة في إسبرطة عن أثينا وبرجع ذلك إلى طبيعة تكوينها الجغرافي والسكاني وطبيعة مقوماتها الاقتصادية والاجتماعية وانعكس ذلك على الوضع السياسي الذي تطور عند حد معين. امتاز النظام السياسي الإسبرطي بالمحافظة الشديدة وشكلت الازدواجية السياسية أهم محاورة حيث تكون النظام الملكي من وجود ملكين على رأس السلطة يراقب كل منهما الآخر وظل الاحتفاظ بالملكين مع تقليص صلاحياتهم لصالح الارستقراطية والتي توقف عندها تطور النظام السياسي في اسبرطة . كانت مؤسسات الحكم الإسبرطي تراقب كل منهما الآخر وتقيد قراراته ، و تكمل بعضها بعضا لصالح الدولة ،كما اعتبرت مؤسسة الجمعية العامة في إسبرطة هي النموذج الوحيد الواضح لممارسة البسطاء حقهم السياسي في إدارة شؤون الدولة أو في صناعة قراراتها حتى وإن كانت هذه الممارسة منقوصة أو كثير من الأحيان اسمية. أدت قوانين ليكورجوس إلى إرساء قواعد الدستور الإسبرطي وسعى المواطنون إلى المطالبة بحقوقهم كما أنها تعد بمثابة نقلة نوعية من الحكم الفردي إلى الحكم الجماعي الارستقراطي . وقد اتجه الفكر السياسي الإسبرطي بعد انتصاره على أثينا في الحروب البيلونيزية إلى بناء الإمبراطورية استعمارية توسعية استفاد منها اقتصاديا كما حاول دعم النظم الشبيهة له سياسياً . اصطدمت إسبرطة بثورة العبيد وحاولت القضاء عليها بحرفية شديدة حيث طوعت هذه الثورة لصالحها بأن منحتهم بعض من حقوقهم وإعادة ترتيب علاقاتهم السياسية بالدولة كما سمحت لهم بتملك الأراضي التي يعملون بها واستفادت منهم بأن ضمتهم لخدمة الجيش فضلا عن دفعهم للضرائب على الأراضي التي تملكوها، كما استكملت مشوارها الاستعماري دون أية توتر داخلي قد يحدث منهم فيما بعد . كانت أهم نقاط الخلاف بين أثينا وإسبرطة حول زعامة بلاد اليونان هو السيطرة على المجلس العام لليونان وقيادة التحالفات وقد تنازع كل منهما حول هذه القضية من أجل إثبات قوته في بلاد اليونان. انهار الحكم الإسبرطي التوسعي نتيجة سوء إدارته لمستعمراته وتحالفاته حيث تعامل بقسوة وبشدة مع هذه المستعمرات واستغلها اقتصاديا فهبت هذه البلاد لتخلص منه فضلا عن تغير الظروف الإقليمية بظهور قوة جديدة مثل مقدونيا التي سعت إلى قيادة بلاد اليونان فانهار بذلك حلم الإمبراطورية الإسبرطية التوسعي. أخيرا، وبعد أن قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 واستمرت موجاتها لأكثر من عامين وما تزال يقول الباحث : أدركت أن لهذه الدراسة أهمية سياسية إلى جانب أهميتها الأكاديمية فإذا كنا نسعى لتطبيق الديمقراطية وارساء قواعد دولة القانون فعلينا أن نفهم أصول هذه الديمقراطية وكيف وصلت بلاد اليونان إلى الديمقراطية المنشودة بعد تاريخ طويل من معناة الشعوب التي حاولت أن تستعيد وعيها بالقوانين كلما حدثت لها كبوة وأجبرت الإدارة السياسية على قبول مطالبها المشروعة في كل مرة تلوح فيها بالثورة وإعلان راية العصيان والتمرد لا لشيء سوى أنها تتمني أن تحقق لنفسها الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وهذه هي مشكلة الإنسان بشكل عام على طول تاريخ الحضارة الإنسانية.