بعد مخاض عسير كاد يشل عمله، نجح مسلمو فرنسا في اختيار رئيس ل"المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية"، حيث حصل عميد المسجد الكبير في باريس، دليل بوبكر، على غالبية أصوات أعضاء مجلس إدارة هذه الهيئة، رغم انقساماتهم العميقة. وبهذه النتيجة، يعود الدكتور دليل بوبكر، إلى رئاسة المجلس للعامين القادمين على أن يخلفه أنور كبيبش، ممثل تجمع مسلمي فرنسا "المشكل في غالبيته من المغاربة"، ثم يأتي بعده التركي أحمد أورغاس، ممثل مجلس المسلمين الأتراك في فرنسا. ويأتي ذلك بعد الإصلاحات التي أدخلت على عمل المكتب، أبرزها تقسيم انتداب المكتب من ست سنوات إلى ثلاثة أقسام من عامين، وذلك بغرض التغلب على الحساسيات، ودفع الجميع إلى التعاون وتلافي الشلل الذي ميز واقع المجلس السابق، بسبب الخلافات الشخصية وتلك المرتبطة بالانتماءات على خلفية التنافس بين أكبر جاليتين مسلمتين في فرنسا وهما الجالية الجزائرية والمغربية. خلافات كبيرة ويخلف بوبكر، ذو ال72 عاماً، المغربي محمد موسوي الذي غادر منصبه قبل سنة من انتهاء ولايته الثانية، وثمة علامات وهن وضعف في موقف المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية على عكس الموقف القوي، الذي تعبر عنه مؤسسة مماثلة تعنى باليهودية في فرنسا تجاه عدد من القضايا الهامة في المجتمع الفرنسي ( قضية الانتخابات الرئاسية الفرنسية). ومما يدلل على ذلك الاتجاه هو شن المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية بفرنسا، في وقت سابق، هجوماً على الوزير الأول الفرنسي بعد إقدامه على انتقاده لجوء يهود فرنسا إلى الاقتصار على اقتناء اللحوم المذبوحة على الطريقة اليهودية. وعلى الرغم من انتخاب المكتب التنفيذي الجديد وتوزيع الصلاحيات داخله، غير أن ذلك لا يعني عدم وجود خلافات كبيرة في الوسط الإسلامي، إذ لم تحل مشكلة تمثيل المسلمين الجماعي، ولا سيما مع مقاطعة اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا - والذي يعد عموماً قريبا من فكر الإخوان المسلمين - الانتخابات التي جاءت بالمجلس الإداري الذي انبثق عنه مجلس المكتب التنفيذي. ومن ثم سيكون الاتحاد غائباً عن المجلس للسنوات الست القادمة بعد أن كان أحد الأعمدة التي نهض عليها، الأمر الذي يعني مزيداً من التفتت والانقسام في الموقف الإسلامي تجاه الموقف اليهودي الرسمي. عناصر الأزمة من ناحية أخرى، يثار تساؤل حول مدى تدخل السلطات الرسمية في شئون الإسلاميين ومصالحهم الخاصة؟، لاسيما مع ظهور الخلافات القوية التي برزت بين أعضاء المجلس، وجعلته يدخل في مرحلة جمود وركود في أعقاب إعادة انتخاب هياكله في يونيو الماضي. ويشدد كثيرون على أن عناصر الأزمة ولدت مع المجلس منذ تأسيسه، ولا سيما مع النواقص التي شابت قانونه الأساسي، إذ تأسس "المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية" عام 2003 بمبادرة من السلطات الفرنسية، وتحديداً من قبل الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، عندما كان آنذاك وزيراً للداخلية، بهدف إنشاء هيئة تمثل نحو أربعة ملايين ونصف مليون مسلم يعيشون في فرنسا؛ في محاولة منه تأطير الشأن الديني وإنشاء ما يسمى "الإسلام الفرنسي" بعيداً عن تأثيرات الخارج. واعتبر المراقبون هذه الخطوة وقتها، أنها من الخطوات الإيجابية التي تقوم بها الدول الأوروبية لدمج المسلمين في المجتمعات التي يعيشون فيها، والتحول نحو الاعتراف بالإسلام والسيطرة عليه واختطافه من أيدي الدعاة أو المؤسسات الإسلامية التي تعتمد في العادة على الدعاة القادمين من دول عربية وإسلامية. وبمرور الوقت، سعت حكومة باريس إلى تفادي انهيار هذا المجلس، ليس لمجرد دفاعها الخاص عن هيئة تمثيلية للإسلام، ولكن بحكم مراهناتها عليه ليكون قناتها لمخاطبة مسلمي فرنسا في وقت تزداد مكانة المسلمين في الحياة السياسية والاجتماعية الفرنسية، ففشل هذا المجلس سيعني فشل ما يسمى "إسلام فرنسا"، أي تسيير الشأن الإسلامي بعيداً عن تدخل الدول الأجنبية، ولا سيما بعد أن شهد العقد الماضي ظهور جمعيات ومنظمات إسلامية، تنادي بما يسمى توطين الإسلام في أوروبا، والتعامل مع التواجد الإسلامي باعتباره تواجداً دائماً بدلاً من ربطه بحركة الطلاب أو المارين لفترات قصيرة في أوروبا. تخوف وترقب ومن هنا يخشى المحللون من تزايد دور باريس عند حد مساهمتها في نشأته لتصل إلى التأثير عن كل ما هو إسلامي داخله، إذ يقع على عاتق المجلس ترتيب عمل الأئمة في المساجد والجيش والمساجد، وتنظيم المقابر الإسلامية، وتقديم شهادات الذبح بحسب الطريقة الإسلامية، وتنظيم بعثات الحج والعمرة لمكة والمدينة، وبناء مساجد ومصليات. فضلاً عن أنه يهدف إلى الدفاع عن رفعة الإسلام ومصالحه المشروعة، فيحرص إلى جانب مختلف مجالس الديانة الإسلامية إلى العمل على تحسين التأهيل المستمر، للإلمام بشئون الدين مع الحرص على التوفير وترشيد الموارد المالية المتوفرة، وتحديد المعايير التي من شأنها أن تسمح على سبيل المثال بتعيين رجال الدين في مختلف الأبنية الإصلاحية (السجون)، وإبداء النصيحة القانونية للجمعيات والمواطنين المسلمين فيما يتعلق مثلاً ببناء وإدارة المساجد. وعلى المستوى الخارجي، أي ما هو غير متعلق بالديانة الإسلامية، فهو يهدف إلى تشجيع الحوار بين الأديان، فعلى سبيل المثال، يتولى المجلس الوطني والمجالس الإقليمية للديانة الإسلامية التابع له، إعداد تقارير سنوية عن أعماله، كما يتولى مهمة التمثيل الشامل للديانة الإسلامية في فرنسا، وذلك إزاء المواطنين المسلمين كما السلطات العامة أو الرأي العام. ومن الجدير بالذكر أن بوبكر، عميد مسجد باريس الكبير الذي يعتبر واحداً من أكبر ثلاث جمعيات مسلمة في فرنسا، قد تسلم رئاسة المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية لولايتين بين العامين 2003 و2008، لكن دون المرور بعملية انتخابية. وسيترأس بوبكر رئاسة جماعية خلال سنتين قبل أن يفسح المجال أمام أنور كبيبش من تجمع مسلمي فرنسا (المقرب من المغرب) على أن يتسلم الرئاسة عام 2017 التركي أحمد أوغاراس من مجلس المسلمين الأتراك في فرنسا.