ليس أدل على التعاون الاقتصادي بين تركيا وروسيا سوى ما صرح به المستشار التجاري لدى السفارة التركية بروسيا "حقي قرة بوركلو"، الذي أشار إلى أن حجم التبادل التجاري بين البلدين، وصل خلال العام الماضي إلى (50) مليار دولار، مضيفًا أن الصادرات التركية إلى روسيا خلال عام (2012) بلغت (7) مليارات دولار، بينما وصلت واردت تركيا من السياحة الروسية إلى (4) مليارات دولار، ليبلغ حجم العائدات التركية من التجارة مع روسيا نحو (25) مليار دولار. فهي سابع أكبر شريك تجاري لروسيا، وتعد الواجهة الأولى للسياح الروس، وثاني أكبر أسواق التصدير له بعد ألمانيا، ورغم ذلك كله يتخوف البعض من أن تتهدد تلك العلاقات، ولا سيما بعد تصاعد حدة الخلافات بينهما فيما يخص المواقف السياسية حول الملف السوري، فضلاً عن عدة قضايا أخرى. منحنى مختلف وبدأت العلاقات الروسية - التركية تأخذ منحى مختلفًا عن حقبة الحرب الباردة وذلك منذ عام 2003، ولا سيما بعد انضمام تركيا كعضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ووضوح قوة تركيا بالنسبة لروسيا، بعد أن كانت تتجاهلها على اعتبارها موالية لأمريكا، وليست لها شخصية مستقلة. وحرصت الدولتان منذ ذلك الحين إلى إعطاء أولوية للعلاقات الاقتصادية والتجارية بينهما، وذلك لحاجة كلتيهما الكبيرة للأخرى، حيث تحتاج تركيا إلى إمدادات نفط وغاز من روسيا، وتعمل تركيا على توطيد أقدام منتجاتها الصناعية في السوق الروسي الكبير، وكذلك تنظر روسيا إلى ضرورة تنوع شركائها الاقتصاديين، وعدم الاقتصار على الدول الأوروبية الرئيسة. ومن ثم تعد روسيا اليوم هي واحدة من أكبر شركاء تركيا التجاريين، بحجم تبادل تجاري وصل إلى (26) مليار دولار في العام الماضي 2012، وبالمثل تعد تركيا سابع أكبر شريك تجاري لروسيا، والواجهة الأولى للسياح الروس، حيث تستقبل تركيا أعدادًا متزايدة من السياح الروس، وتعتبر ثاني أكبر أسواق التصدير له بعد ألمانيا، علماً بأن ميزان التبادل التجاري يميل لصالح روسيا؛ نظرًا لأنها المصدّر الأول للغاز إلى تركيا، وهو ما صرح وزير الطاقة التركي مؤخرًا، بأن ربع إنتاج تركيا من الكهرباء يعتمد على واردات الغاز الطبيعي الروسية. وسعياً إلى التعاون الاقتصادي بين البلدين، ألغت الحكومتان مؤخرًا شرط سمة الدخول عن سفر مواطنيهما بين البلدين، كما خفّفا الرسوم الجمركية عن السلع المتبادلة؛ الأمر الذي يصب لصالح المنتجات التركية المصدّرة إلى روسيا. تاريخ شائك هذا على مستوى التعاون الاقتصادي، أما على المستوى السياسي فلم يحظ بهذا الشكل المتوافر عليه في الحالة الاقتصادية، حيث تظهر الاختلافات بل الخلافات في المواقف الدولية بين الدولتين تجاه القضايا الإقليمية المشتركة. ويُرجع البعض هذه الخلافات السياسية إلى التاريخ الشائك من الصراع بينهما، ولا سيما حول منطقة شمال القوقاز، التي باتت تمثل محور الخلافات بينهما، حيث تقف أنقرة مثلاً، إلى جانب أذربيجان في صراعها مع أرمينيا حول إقليم "ناغورنو كاراباخ"، بينما تعتبر أرمينيا حليفًا روسيًا، وفي الوقت الذي تسعى فيه روسيا إلى إعادة سيطرتها على جورجيا، التي تقع في مدخل الممر القوقازي الإستراتيجي إلى روسيا، تتعاطف أنقرة مع توجهات الاستقلال الجورجية، وتأمل بأن تبقى جورجيا أقرب إلى الولاياتالمتحدة ودول الناتو، ودولة عازلة بين تركيا وروسيا. من ناحية أخرى، يرى المحللون أن الملف القبرصي بات هو الآخر أحد أبرز ملامح الخلاف والصراع بين البلدين، حيث تنتهج روسيا سياسة أرثوذكسية تقليدية، وتدعم حكومة قبرص اليونانية ضد قبرص التركية، فبالرغم من الاحتجاج التركي وتعثر محاولات إعادة توحيد جزيرة قبرص، لما سيحصده المستثمرون الروس في البنوك القبرصية من فوائد وتسهيلات، حرص الروس على استخدام النظام المالي القبرصي بصورة هائلة في السنوات الأخيرة، ورحبت موسكو بضم "قبرص اليونانية" للاتحاد الأوروبي. ولكن بعد الانهيار الاقتصادي - المالي في قبرص، تحولت توجهات الاستثمار الروسية تجاه تركيا، لا سيما بعد تدهور الاستثمارات المالية الأجنبية في البنوك القبرصية، وتدهور وضع "قبرص" المالي. الملف السوري ولا يزال يمثل ملف الأزمة السورية الأكثر إلحاحًا في دائرة الخلافات السياسية التركية - الروسية، حيث احتلت الدولة السورية موقعًا متقدمًا في مباحثات كل من وزيري الخارجية الروسي والتركي "لافروف" و"داوود أوغلو"، ولكن لكل منهما تصور ورؤية مختلفة تماماً يجعلهما في صدام مستمر، حيث تُبنى النظرة التركية على تدعيم الثورة السورية بأي شكل من الأشكال، فكانت تركيا هي المدعمة الأولى لتأسيس الجيش السوري الحر على أراضيها، كما كانت ولا تزال تدعم فكرة وقرار الائتلاف الوطني السوري بتشكيل حكومة مؤقتة لإدارة المناطق المحررة، كما تؤمن بضرورة رحيل الأسد. أما عن موسكو، فهي مختلفة تماماً مع هذه الرؤية، حيث ترفض موسكو الرؤية السابقة، ولكنها تؤمن بضرورة وجود حوار بين النظام والمعارضة، بهدف تشكيل حكومة انتقالية ائتلافية، مع بقاء الأسد على رأس الدولة. وقد برزت هذه الرؤية المتناقضة من خلال تصريحات كل من وزراء الخارجية الروسي والتركي، ففي الوقت الذي انتقد فيه وزير الخارجية الروسي الدول التي تدعم الثوار السوريين، مؤكدًا على أن ليس ثمة حل عسكري في سوريا، يرى "داوود أوغلو" - وزير الخارجية التركي - أن استمرار الأزمة بهذه الصورة يمثل عبئًا كبيرًا على تركيا، التي تستضيف أكثر من (300) ألف لاجئ سوري، إضافة إلى التهديد التي تمثله لأمن تركيا، مؤكدًا على أن حكومته لن تتردد في اتخاذ الإجراءات الضرورية لحماية أمن البلاد ضد النظام السوري (دعم الجيش السوري بالسلاح). خلاصة القول، إن ثمة تعاوناً اقتصادياً وتجارياً كبيرين بين البلدين، ولكن ذلك لا يمنع من وجود خلافات سياسية كبيرة، بعضها يعود إلى تاريخ شائك من الصراع، وبعضها الآخر يعود لاعتبارات (جيو - سياسية) حديثة، مثل الأزمة السورية الحالية التي أضحت أحد أبرز ملامح الصراع الجديد. ومن ثم يتخوف البعض من تداعيات تلك الخلافات السياسية، ولا سيما مع تفاقم الأزمة بشكل لا يقبل أي منهما نتائجه، على مثل هذه العلاقات التجارية والاقتصادية المتنامية بين الدولتين.