فرضت خصوصيات الدول البلقانية التي تتعدد فيها الجماعات العرقية والإثنية تعقيداً مهماً واستثنائياً لقضية الدخول إلى الاتحاد الأوروبي، الذي أُحيط بالعديد من المعوقات باعتباره نادي أوروبا المسيحي، إضافة إلى الخلافات البينية القائمة بين دول البلقان، وبالتالي كانت علاقات بلدان البلقان الحالية فيما بينها ركناً أساسياً في عملية التخطيط لانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. لكن النموذج الألباني مثّل مساراً استثنائياً في هذا الإطار، عبر محاولته تهدئة وتخفيف حالة الاحتقان في البلقان، وتكوين صمام الأمان لمواجهة احتمال انفجار الأوضاع في البلقان، بسبب التشدد القومي والراديكالية الإثنية، الأمر الذي يمهد للالتحاق بالنادي الأوروبي. وبالتالي كان الوجود الألباني في المنطقة عامل أساسي للسلام عبر مجموعة من المقومات، تمثلت في الموقع الجيوستراتيجي الذي تحتله موقع ألبانيا، الذي منحها أهمية بالغة في السياق الأوروبي العام، كما أنها تلعب دورًا حاسمًا ومحددًا في علاقة أوروبا بالبلقان ومركز حوض البحر الأبيض المتوسط. وعلى الرغم من أن التوزيع السكاني في ألبانيا يغلب عليه الطابع الديني، لكنها تعتبر البلد الأكثر تجانساً من الناحية الإثنية في المنطقة بل والعالم كله ، حيث إن أكثر من (80%) من الشعب الألباني من المسلمين، بما يشكّل مدخلاً مهمًا يلعب دورًا محددًا في المشاريع الإستراتيجية الدولية التي تتعلق بمستقبل منطقة البلقان، في حين أن (12%) من الروم الكاثوليك، و(6%) من الأرثوذكس، أما عدد اليونانيين فلا يتعدّى (1%) من مجموع السكان. والجماعة الإثنية هي الجماعة التي لها تراث تاريخي وحضاري مشترك يتوارثه أعضاء الجماعة جيلاً بعد جيل إلى أن يصبح جزءاً عضوياً لا يتجزأ من وجودهم، يميزهم عن الآخرين ويشكل مصدر خصوصيتهم القومية (الإثنية) وتتحدث ألبانيا لغة واحدة تقريباً باستثناء بعض الأقليات التي تتحدث لغات أخرى لا تتعدى (3%) من السكان كالمقدونيين والبوسنيين وأقليات قادمة من الجبل الأسود والغجر واليونانيين والمصريين، فهل بالفعل كان هذا الطابع الديني ذو تأثير على سياسة "ألبانيا" في المنطقة، وخاصة ما يتعلق بسعيها نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟. والإجابة أن ثمة مجموعة من الظروف الخاصة التي مهدت إلى الاستثنائية الألبانية في هذا الملف، والتي خففت من حدة التوتر السياسي بسبب التخوف من ارتفاع نسبة المسلمين الألبان في هذه المنطقة من أوروبا، وهي أن السياسة الألبانية الرسمية منذ 1912 - وبغض النظر عن النظام السياسي الذي حكم ألبانيا - لم تركّز على المعطى الديني أي الهوية الإسلامية لمعظم مواطنيها في بناء خياراتها السياسية ومشاريعها المجتمعية، فمنذ تشكيل الدولة عام 1912، وعلى خلاف ما كانت عليه الإمبراطورية العثمانية، عرفت ألبانيا نظامًا إلحاديًا قاده أنور خوجة، وتواصل عدم التركيز على إسلامية المجتمع في عهد الديمقراطية الذي تشهده ألبانيا في العشريتين الأخيرتين، حيث تتّبع نظامًا علمانيًا على مختلف المستويات، وتمارس تهميشًا واضحًا لأي دور للدين داخل المؤسسات الحكومية. رمانة الميزان وعلى مستوى تحليل العلاقات البينية لدول البلقان، فهي بالتأكيد لحظة أساسية في عملية التخطيط لانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، لكن تعقيد الموضوع وأهميته الاستثنائية، يتطلب مع ذلك تحليلاً خاصاً. فمنذ تأسيسها كدولة حديثة بنت ألبانيا تقليديًّا علاقات جيدة مع إيطاليا، فباستثناء فترة عزلها التام عن العالم الخارجي في عهد حكم أنور خوجة، عرفت ألبانيا علاقات ناشطة ومكثفة مع إيطاليا، كما لألبانيا علاقات توصف بالطيبة في منطقة البلقان سواء مع الجار اليوناني أو المونتنجريين. ومن ناحية أخرى تبدو تحركات ألبانيا متوازنة بشكل عام على البعد الخارجي لنطاق البلقان، من خلال علاقاتها بإسرائيل باعتبارها العضو الملاحظ في الاتحاد الأوروبي الذي دعم رغبة ألبانيا في دخول الاتحاد، فكانت تحكمها مصالح السياسة الدولية، وسعى كل طرف منهما إلى تعزيز مصالحة وكسب ودّ الطرف الآخر تجاه قضاياه الإستراتيجية الكبرى. فأصبحت لغة المصالح المشتركة تطغى على طبيعة تلك العلاقات، وماضي اليهود وما لاقوه من عنت على أيدي اليونانيين والبلغار خلال العقود الماضية، وخاصة ما تعرضوا له من تنكيل وسجن وترحيل قسري أثناء الحرب العالمية الثانية، فأصبح لا يُشكِّل عاملاً معطّلاً لسير العلاقات وتطوّرها، كما أن تميز العلاقة بين إسرائيل وألبانيا تاريخيًّا لم تتغير طبيعته، بل ازدادت متانة رغم أن "ألبانيا" دولة يشكِّل المسلمون فيها غالبية مطلقة. فرصة أوروبية وعلى مستوى آخر من التحرك في مسار تحقيق المصالح، ركزت ألبانيا كإحدى دول البلقان على إعطاء دفعة قوية لهويتها القومية وتحقيق البرامج المتعلقة بها والمتفرعة عنها، وبالتالي في الوقت الذي استعاضت فيه الولاياتالمتحدةالأمريكية في كل ولاياتها الفيدرالية، ونيوزيلندا وأستراليا، عن الهوية القومية بتفعيل مفهوم المواطنة، فإن دول البلقان ما تزال تصرّ على هويتها القومية أكثر من أي وقت مضى، ويغيب عن وعي شعوبها الجمعي مفهوم المواطنة أو يكاد. وبغض النظر عن كل الاختلافات القائمة بين دول البلقان، جاءت الرغبة الألبانية في تأكيد هويتها القومية والثقافية وتحسين أوضاعها الاقتصادية، عبر قناة مشتركة وحّدتها فرص الالتحاق بالاتحاد الأوروبي كهدف مركزي تسعى إلى إنجازه. ورغم ذلك فإن هناك إمكانية لعرقلة انضمام الدول البلقانية، نتيجة محاولة بعضها تأخير أو تعطيل انضمام جاراتها، ومثال ذلك ما حدث عندما عطّلت سلوفينيا أولى الدول لحاقًا بالاتحاد الأوروبي، قبول طلب عضوية كرواتيا بإثارتها للخلاف الحدودي بينهما، وينسحب ذلك على معظم الدول البلقانية ما عدا ألبانيا. وفي الحقيقة نجد أن ثمة نتيجة هامة لكون ألبانيا غير منجرفة في صراعات سواء مع دول الاتحاد الأوروبي أو في علاقاتها البلقانية، مما يزيد من احتمالات دخولها إلى الاتحاد. وعلى الرغم من ذلك التحفيز إلا أن ثمة عائقاً آخر في انضمام ألبانيا ودخولها النادي الأوروبي، وهي أن أوروبا ومنذ نشأة اتحادها أظهرت بما لا يدع مجالاً للشك تحفظها على الإسلام والمسلمين، وقد كرّر مسئولوها مرارًا وتكرارًا مغالطة أن أوروبا قارة مسيحية خالصة، وأن الإسلام - بصفته ديانة شرقية - غريب عن أوروبا، وأدت هذه المغالطة الكبرى إلى سلبية في العلاقة أثّرت في الجانبين. وختاماً يمكن القول أنه ما دامت ألبانيا ترعى وتدافع عن حقوق الألبان في دول الجوار بالطرق المسموحة دبلوماسيًا، وبقدر ما تلتزم فيه مرارا باحترام حقوق الأقليات على أراضيها، وبقدر ما تواصل نهجها الديمقراطي في السياسة والتحرري في الاقتصاد، فإن ألبانيا ستكون عامل استقرار وسلام في كامل منطقة البلقان. وبالتالي كان هناك دافعين مترابطين لهما نفس الأهمية النسبية، ويحكمان طموحات ألبانيا في دخولها الاتحاد الأوروبي، أحدهما قومي والثاني اقتصادي، بحيث يسمح الدافعان بتحقيق الأهداف القومية للدولة البلقانية ويخرجها من ظروفها الاقتصادية والاجتماعية المتردية. وإذا نجح الاتحاد الأوروبي في تخطي الاختبار الذاتي الذي رسمه لنفسه، وعامل ألبانيا باحترام وندية، واحترم ثقافة وتقاليد الألبان وتمكن من فرض احترام الإسلام وعدم التمييز ضد المسلمين، وفرض تلك القواعد في كل دول منطقة البلقان، خاصة في معاملة الألبان مهما كانت ديانتهم، فإن الاتحاد الأوروبي حينها يكون قد بلغ أعلى مراتب النجاح في تهدئة اضطراب منطقة البلقان الحاسمة في تحديد مستقبل أوروبا اليوم، كما كانت بالأمس تلعب دورًا أساسيًا في تشكيل الهوية والقيم الأوروبية.