في ظل ما تشهده المنطقة العربية من تطورات سياسية ناتجة عن صعود تيارات الإسلام السياسي إلى صدارة المشهد العام في دول الربيع العربي وما يشكله ذلك من تهديد للكيان الصهيوني وفق رؤية تل أبيب، تأتي زيارة الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز لبعض الدول الأوروبية وخاصة فرنسا لتثير العديد من التساؤلات حول جدوى الزيارة وأهدافها، خاصة وأن الرئيس الإسرائيلي التقى في باريس بممثلي الجالية المسلمة وممثلي الديانة اليهودية على السواء، إلى جانب مباحثاته مع الحاخام الأكبر لفرنسا. وتتزايد التساؤلات عن سر اهتمام بيريز بتلك الأطراف التي تبدو للوهلة الأولى بعيده عن السياسية ومشاكل المنطقة، ودور تلك المؤسسات في فرنسا في ظل القيادة الفرنسية الجديدة؟ وهو ما يفتح الباب لإلقاء الضوء على حجم وتأثير كل من الجاليتين اليهودية والإسلامية على صناعة القرار السياسي في فرنسا.
نفوذ كبير: ويرى البعض أن اهتمام بيريز بالجاليات اليهودية في فرنسا يرجع لما تتمتع به من نفوذ كبير في صياغة الحياة السياسية داخلها، بسبب نزوح أعداد كبيرة من اليهود إليها، وتمتاز الطائفة اليهودية بأنها الأكثر تنظيماً وتجاوباً، فهي موجودة على جميع الأصعدة، الثقافية والسياسية والاقتصادية والدينية والقانونية والطلابية، وحيثما يوجد تجمع يهودي فهناك تنظيم أو اتحاد يربط بعضهم ببعض.
فتوجد حوالي مائة جمعية واتحاد وتنظيم يهودي وصهيوني في باريس وحدها إلى جانب وجود مكاتب لمختلف الأحزاب السياسية الموجودة في إسرائيل، ومن أشهر هذه المنظمات "الحركة الصهيونية في فرنسا"، و"مجلس المثقفين اليهود من أجل إسرائيل"، ودخلت العديد من المنظمات اليهودية في تنظيم موحد منذ عام 1977 تحت اسم "المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا".
وجاء لقاؤه مع ممثلي الجاليات العربية والإسلامية نتيجةً لامتلاكها مئات التنظيمات الفاعلة في باريس، ومن أشهر الهيئات الإسلامية التي تمثل المسلمين في فرنسا، المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية ويرأسه محمد موساوي وهى تعتبر أكبر المنظمات الإسلامية في فرنسا علاوة على عدد من المنظمات الأخرى من بينها المعهد الإسلامي ومسجد باريس الكبير الذي دشن في 1926 والمساجد الإقليمية التابعة له، واتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا وهو تنظيم يعتبر نفسه امتداداً ل"الإخوان المسلمون"، والفيدرالية الوطنية لمسلمي فرنسا والذي تأسس سنة 1985م، بالإضافة إلى جماعة الدعوة والتبليغ.
استغلال مبرر جاءت كلمة اللوبي لوصف مدى النفوذ اليهودي المنظم في الدول المختلفة، ويتمثل دوره في التأييد المستمر للسياسات الإسرائيلية والمسائل المتعلقة بمصلحتها بالشرق الأوسط .
وباعتبار فرنسا ثالث تجمع لليهود في العالم بعد الولاياتالمتحدة وإسرائيل، تحظى الجالية اليهودية بمكانة مميزة ومؤثرة، نظراً لعدة أمور يعمل اللوبي الصهيوني على استغلالها، مما يثير تساؤلاً حول ماهية الأمور التي يعمل اللوبي اليهودي على استغلالها من أجل التأثير على القرار الفرنسي؟
وحرص اليهود بصفة عامة واللوبي الصهيوني بصفة خاصة على استغلال ما يعرف ب( عقدة الذنب) -إشارة إلى مذبحة اليهود في الحرب العالمية الثانية - فهي تلقي باللوم على الأوروبيين وفرنسا وتحملها مسئولية قتل أعداد كبيرة من اليهود نتيجة سكوت الدول الأوربية عما فعله "هتلر" في حق اليهود.
كما استغلت فرنسا تحت ما يسمونه (معاداة السامية)، فتحت هذا الشعار نهضة المسألة اليهودية من تحت رمادها وحركتها الدول الكبرى لإبراز دورها ووزنها وقوتها في العلاقات الدولية.
واستغل اليهود الفرنسيون عدداً من القضايا للضغط على الحكومة الفرنسية للموافقة على خططها في إقامة "الوطن القومي اليهودي" في فلسطين مثل قضية الضابط اليهودي دريفوس الذي اتهم بنقل أسرار عسكرية إلى السفارة الألمانية في باريس، وصدر الحكم على هذا الضابط في 22 ديسمبر من عام 1894، بتجريده من رتبته العسكرية وطرده من الخدمة، وسجنه مدى الحياة في جزيرة الشيطان.
ولكن تعرضت الحكومة الفرنسية للضجة التي أثارها اليهود وأصدقاؤهم، ولذا جيء بالضابط من منفاه، وأعيدت محاكمته، وصدر قرار ببراءته من التهم الموجهة إليه، ومنح وسام الشرف، كما أعيد للخدمة في الجيش من جديد نتيجة ضغط الرأي العام على فرنسا وقتها فكانت قضية دريفوس مثالاً على النفوذ اليهودي في فرنسا.
تراجع إسلامي ونظراً للنفوذ السياسي والمالي والاقتصادي لليهودية العالمية في بريطانيا وفرنسا وروسيا وبعض الدول الأخرى، يتزايد التأثير في صنع القرار الفرنسي بشكل مباشر أو غير مباشر، عكس الجاليات العربية والإسلامية التي يتراجع تأثيرها نتيجة معاناتها من قصور كبير في الأمور المالية، وظهر النفوذ اليهودي في فرنسا خلال الانتخابات الرئاسية الفرنسية السابقة من خلال التأييد الكبير لساركوزي من اليهود الفرنسيين، وفسر البعض فوزه لكونه من أم يهودية وأن زوجته هي الأخرى يهودية، لذا سعى المرشحون إلى اجتذاب الصوت اليهودي في الانتخابات .
بينما فقد اللوبي العربي ثقة الرؤساء المرشحين باستقطابه أو السعي وراء أصواتهم إما لقلة عددهم رغم تزايد نسبة المسلمين هناك، أو نتيجة لعدم قدرته في التأثير على مجريات الأمور، فلم تكن لديه القدرة على استغلال القضايا مثلما يفعل اليهود.
ولا تزال الجاليات العربية والإسلامية تعاني من الانعزال عن الساحة السياسية في البلاد الغربية، إما لإيمانهم وعدم اعترافهم بالديمقراطية وإما لتأثرهم بأنظمتهم الأصلية التي وصفت بالديكتاتورية، أو لغياب عنصر التنظيم عنها الذي يتمتع به اليهود.
ويمثل سيطرة عدد من اليهود الفرنسيين على المؤسسات الاقتصادية والبنوك العالمية وارتباط الاقتصاد الفرنسي بتلك المؤسسات، أحد الأمور التي تجعل السياسة الفرنسية موالية لإسرائيل أكثر من الدول العربية والإسلامية لضمان استقرارها الاقتصادي.
أما على الجانب العربي والإسلامي فلم نسمع حتى الآن عن أي دور لها في التأثير على المؤسسات الاقتصادية والعالمية، وبالتالي تفقد أهميتها في التأثير على صناعة القرار الفرنسي.
ويؤدي الإعلام الصهيوني دوراً كبيراً في التأثير على الرأي العام الفرنسي لامتلاكه أموالاً كثيرة وأساليب دعائية ضخمة، علاوة على عدد من العلماء اليهود الذين كان لهم دور كبير في كسب عطف الدول الأوربية، فمعظم العلماء من اليهود الفرنسيين، بالإضافة إلى عدد من المفكرين والكتاب اليهود الذين يروجون للإيديولوجية الصهيونية، في حين تعاني الجالية العربية المسلمة من ضعف شديد خاصة في الجانب الإعلامي، نظراً للربط الخاطئ بين الأعمال الإرهابية والإسلام في معظم الدول الغربية، فكانت تهمة الإرهاب إحدى التهم التي جعلت الجاليات المسلمة بعيدة عن كسب ود الرأي العام الفرنسي، وبالتالي فقدت قدرتها على التأثير في أحد أهم مكونات النظام السياسي الفرنسي.
مستقبل الجالية العربية وتعد سيطرة اللوبي الصهيوني على الإعلام بل على مؤسسات الدولة نفسها وكذلك استغلال عدد من القضايا علاوة على امتلاكهم أموال ضخمة والتحكم في الاقتصاد الفرنسي، من الأمور التي تدفعنا بالقول بأن هناك تأثيراً قوياً على القرار السياسي الفرنسي على عكس الجاليات العربية والإسلامية التي افتقدت إلى التنظيم والضعف المالي بل كانت في موقف المتهم خاصة فيما يتعلق بقضية الإرهاب التي ظلت ولا تزال تدافع عن موقفها، لذا ابتعدت عن التأثير في مجريات السياسة الفرنسية.
ويتواجد اليهود في معظم التيارات السياسية الفرنسية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بل إن بعضهم تزعم حركات وأحزاب سياسية عدة مثل: آلان كريفين (زعيم أحد التنظيمات الماوية) وكان لبعض العناصر من اليهود دور كبير في الحياة السياسية في فرنسا كرئاسة بعضهم الحكومة الفرنسية عدة مرات أمثال ليون بلوم ومنديس فرانس (من الحزب الاشتراكي) وميشال دوبريه، وليو هامون (من الديغوليين) أو في وجودهم الملحوظ في قيادات النقابات العمالية والطلابية، علاوة علي كون الرئيس السابق ساركوزي من الأصول اليهودية عكس الجاليات العربية التي لم يوجد لها تأثير سياسي واضح .
ولذا؛ فإن تفعيل اللوبي العربي في فرنسا، كي يصبح له قوة تأثيرية على غرار اللوبي اليهودي يرتبط بمدى تعافي الدول العربية والإسلامية بسرعة كبيرة من محنتها الحالية، والانشغال الأكبر بتوفير الأموال اللازمة وإرسالها لهذه الجاليات لنشر الأفكار والتوجهات العربية والإسلامية في المجتمع الفرنسي حتى توازي هذه الجاليات دور اللوبي الصهيوني الفرنسي على الأقل.
ويرتبط أيضاً بمدى قدرة الجالية العربية في فرنسا على التنظيم الجيد والمشاركة في الأحزاب السياسية والمنظمات الفرنسية وتصحيح أفكار الغرب تجاه الإسلام والعرب، وعندها سوف يؤثرون على النخب السياسية الفرنسية، ولن تستطيع السياسة الخارجية الفرنسية اتخاذ مواقف سياسية معادية للقضايا العربية بل ستتجه إلى تعزيز موقف الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط ليس قبولاً للعرب كحد ذاتهم بل لكونهم يحققون مصالح النخبة الحاكمة دون انتظار عطف الدول الكبرى لهم.