* اعتقل بتهمة العيب في الذات الملكية وتوعكت مشاعره لمشاهد الجلد * احتفظ بأقلام ثلاثة .. وتفاءل برقم 13! * قال : لو عشت للمائة لكتبت مذكرات القرن
كتبت : نرمين على
"هل كان العقاد ساحرا ؟ رأيته كذلك ، فهو يخرج بالمعاني من المعاني ، ولا أعرف كيف ، ثم هو قادر على أن يستدرجنا إلى ما لم يخطر على البال من نتائج ، هل كان محاميا عظيما ؟ هل كان مهندسا فكريا جبارا ؟ كان كل ذلك " هكذا تحدث عنه أنيس منصور وهكذا نبدأ الحديث عنه قبل يوم من ذكرى رحيله التاسعة والأربعين.
ولد عباس العقد بأسوان يوم 28 يونيو 1889، وكان يقول أنه ولد فيها بمشيئة القدر ولو أنه ملك الأمر كان سيولد بها بمشيئته ، وكان جده يعمل بصناعة الحرير ، لذا أطلق علي عائلته "العقاد" أي من يعقد الحرير ، أما والده فكان أمينا للمحفوظات ، ولم يكن مكثرا من قراءة الكتب سوى الدينية
بدأ العقاد حياته الأدبية في التاسعة من عمره ، وكانت أول قصيدة نظمها في مدح العلوم ، وتدرج في المدارس ، وكان يحب كتابة الإنشاء وحينما عرض أستاذه موضوعه على الإمام محمد عبده قال عن العقاد "ما أجدر هذا أن يكون كاتبا" ، وجاء إلى القاهرة في سن الخامسة عشر عام 1904 لإجراء الكشف الطبي ، ولكنه فيما بعد سئم وظائف الحكومة ، وكتب في الصحف يشكو الظلم الواقع على الموظفين ، ثم عمل بالصحافة حتى عين عضوا بمجلس الفنون والآداب كما عين بالمجمع اللغوي وكان يفضل قراءة كتب فلسفة الدين ، وكتب التاريخ العام والتاريخ الطبيعي وتراجم العظماء ، وداوين الشعر ، فكان التاريخ والأدب والفن والسياسة والنكتة كلها أصابع بيانو يلعب عليها معا في وقت واحد
البومة ورقم 13 من الطرائف التي ينقلها أنيس منصور عن العقاد أنه كان "على عكس خلق الله" يتفاءل برقم 13، فكان منزله بمصر الجديدة يحمل هذا الرقم وكان الرقمان الأولان لتليفونه يبدأن ب 13 ، وقسم كتبه 13 قسما ، وبدأ بناء منزله بأسوان يوم 13 مارس ، ودفن بأسوان يوم 13 مارس أيضا ، وكان يتفاءل بالبومة ، ولا يتشاءم من الكتابة عن الشاعر ابن الرومي الذي أهلك كل الذين كتبوا عنه .
الحب .. قضاء وقدر
" ما الحب ؟ .. ما الحب إلا أنه بدل من الخلود ، فما أغلاه من بدل "
لقد أحب العقاد في حياته مرتين ، فكان له في شبابه قصة حب عنيف ، صدم فيها صدمة كبيرة ، فكتب سلسلة مقالات بعنوان "مواقف في الحب" وهى التي جمعها في كتاب اسمه "سارة" وهو اسم مستعار لتلك الفتاة ، وكان يحب فيها الأنوثة الدافقة ، فكانت لا يشغل بالها سوى الاهتمام بجمالها ولكنها كانت مثقفة ، والثانية هي مي زيادة التي أحبها لأنها كانت مثقفة قوية الحجة تناقش وتهتم بتحرير المرأة ، ولكنها أيضا فارقته حينما علمت بحبه لغيرها .
وخلاصة فلسفته في الحب هي أنه قضاء وقدر ، فهو يرى أننا لا نحب حين نختار ، ولا نختار حين نحب ، وأننا مع القضاء والقدر في الحياة والموت والحب ، وكان يرى في الحب شئ من العادة وشئ من الخداع وشئ من الأنانية .
العقاد الإنسان
"أعلم علم اليقين أنني أجازف بحياتي ، ولا أصبر على منظر مؤلم أو شكاية ضعيف ، أعلم أن الرحمة المفرطة باب من أبواب العذاب في حياتي منذ النشأة الأولى "
كان العقاد شديد الحساسية والتأثر ، فأثناء سجنه بتهمة العيب في الذات الملكية ، وقع نظره على الجلاد الذي يهوى بسوطه على ظهر سجين حتى انبثق الدم من ظهره ، فبكى ومكث مريضا أسبوع كامل ، ولم يستطع النوم لثلاث ليال .
وكان يأسره الفن الجميل إلى الدرجة التي تجعله يبكى حينما يرى مشهد عاطفيا أو دراميا متقن فقد بكى حينما شاهد أول فيلم اجنبى ناطق بطولة الممثل آل جونسون ، حينما رأى مشهد الطفل الصغير الذي حرم من أمه ، وظل هدفا للإهمال حتى مات ، ولم يستطع النوم في تلك الليلة إلا بعد أن غسل رأسه بالماء الساخن ثلاث مرات ظنا منه أنه بذلك يطرد عنه الأفكار السوداء.
وكان العقاد شديد التعلق بوالدته ، فحينما كان يزور أسوان ويدخل بيته يهرول إلى حجرتها ويلتصق بها ، وبعد وفاتها لم يعد يستطيع أن يدخل حجرتها مجددا حتى لا يتذكر فجيعته فيها .
ثلاثة أقلام
"احتفظت بأقلام ثلاثة ، كان لاحتفاظي بكل منها سبب وتاريخ "
احتفظ العقاد بثلاثة أقلام في حياته ، الأول : قلم أهداه إليه شخص عزيز عليه ، كان قد كتب به قصيدة للعقاد في وصف ليله على النيل ثم أهداه إياه ، الثاني : هو الذي كتب به الفصول الأولى من كتابه عن ابن الرومي ، ثم سجن به بعد ذلك ، الثالث : هو القلم الذي أخرجه لأحد خصومه السياسيين وأقسم له أن الوزارة ستسقط قبل أن ينبري هذا القلم .
منهج العقاد في الكتابة
كان العقاد أثناء كتابة المقالات للمجلات الأدبية ، يرحب باقتراح المشرفين على التحرير للموضوع الذي يكتب عنه ، لأنه يرى أنه من حقهم أن يختاروا ما يناسب المجلة ، كما أن هذا يعفى الكاتب من مشقة البحث عن موضوع ، وكان لا يبدأ كتابة المقال إلا وجميع أصوله في ذهنه .
كان العقاد يحب الكتابة في أي مكان يخلو من الضوضاء ، وكتب أكثر كتاباته النثرية وهو مضطجع على الفراش ، أما الشعرية كان يكتبها أثناء سيره في الخلاء ، أما منهجه في تأليف الكتب فيعتمد على التقسيم والتنظيم .
سر انطواء العقاد
كان العقاد يميل إلى العزلة والانفراد ، وربما ظن البعد أن هذا الانطواء يرجع إلى عقد نفسية ولكن حقيقة الأمر ،هي أنه ورث الانطواء عن والديه ، وكان يشغل وحدته بالقراءة والكتابة ولكنه رغم ذلك كان يميل إلى الصداقة ويكره العداوة ولا يعرف التوسط في كليهما .
كما يرجع حبة للانطواء حادث مر به وهو دون السابعة وهو الوباء ، حيث مات الكثيرون بسببه وخلت الشوارع وأغلقت الحكومة أبوابها ، وكان الناس يسألون كم المحصول اليوم وهو تهكم لمعرفة عدد الموتى في ذلك اليوم ، وبسبب هذا أيضا ترجع سر وحشته .
عشق الأطفال
"الأطفال محبوبون لأنهم أزاهير الإنسانية وترجمان ربيعها ، محبوبون لأنهم بشائر الشباب والحياة "
كان العقاد يحب الأطفال جدا ، فكل الأطفال في منزله أصدقائه يصعدون إليه ، ويتحدثون معه وكان يعدهم دائما معلمون من الطراز الأول ، لأن أخلاق الإنسانية مكتوبة في نفوسهم بالخط البارز ، فهم لا يكتمون شيئا ، وكان يحب تأملهم حينما يبكون من مصائبهم الصغرى التي تضحك الآخرين لتفاهتها .
فهؤلاء الأطفال مصائب في وقت الحرج ، ولكنهم يقوموا بتسلية الإنسان حتى وهم يحرجوه ويعلمك أن دروسه التي يمليها عليك أفضل من دروسك التي تمليها عليه ، وكان يرى فيهم متعة غالية الثمن ، ودائما كان ينعت من يعتقد أن الحزن على الصغير أهون من الحزن على الكبير بالجاهل .
كيف نظر العقاد للموت ؟
" إنني لا أتمنى أن أصل إلى عمر المائة كما يتمناه غيري ، وإنما أتمنى أن تنتهي حياتي عندما تنتهي قدرتي على الكتابة و القراءة"
كان العقاد يكره الموت ولا يخشاه ، توفيت والدته في سن الثمانين وتوفى والده دون ذلك ، وقد تنبأ بموته حينما قال " إن الابن يأخذ متوسط عمر والديه ، وقد تنتهي حياتي قبل الثمانين " وكان يتمنى أن يختم حياته بكتاب عن الإمام الغزالي وفلسفته ، وقد قضى آخر ثلاثين سنة من عمره في قراءة دقيقة عنه لأنه كان يراه قدوة للفلاسفة ، ومثال للتفكير الرفيع ، وكان يعده أول مفكر اسلامى ، وكان يقول أنه إن أكمل المائة عام حيا ، سوف يصدر كتابا اسمه (قرن يتكلم)
ولكنه رحل قبل المائة كما تنبأ ، بعد أن تجاوزت كتبه مائةَ كتاب، بالإضافة إلى مقالاته العديدة التي تبلغ الآلاف في بطون الصحف والدوريات، ولقي الله في 12 مارس 1964 .
عبقريات العقاد
ألف العقاد سلسلة العبقريات حيث (عبقرية محمد) وهو ليس تقديم سرد للسيرة النبوية أو شرح للإسلام بل هو تقدير لعبقرية سيدنا محمد بالشكل الذي يراه المسلم وغير المسلم ، كما كتب العقاد (عبقرية عمر) الذي قال فيه عن عمر بن الخطاب "إن هذا الرجل العظيم أصعب من عرفت من عظماء الرجال نقداً و مؤاخذة "كما كتب العديد من العبقريات ، عن خالد بن الوليد وعثمان بن عفان وأبو بكر الصديق والمسيح عيسى بن مريم .