يمثل رحيل الموسيقار عمار الشريعي فقداناً لقيمة فنية مهمة كانت تصنع توازناً كبيراً بين الماهية والشكل، وتنتصر للمضمون برغم انتشار الظواهر الشكلية السلبية، حيث الاحتكام في تحديد الفروق الجوهرية بين الراقي والمسف في المصنفات الموسيقية كان مصدره الرجوع للأصول التي يمثل الشريعي جزءاً منها . برغم الألحان الكثيرة والمتميزة التي صاغها الفنان الراحل للعديد من المطربين والمطربات، إلا أن نبوغه الحقيقي جاء واضحاً في موسيقاه التصويرية فهي الأقرب إلي وجدانه وقدراته وثقافته فمن اقترب من عقل وقلب وطبيعة هذا الرجل يمكنه إدراك ميوله للتجسيد الصوتي وهي خاصية تتوافر في بعض من فقدوا البصر وامتلكوا البصيرة فهؤلاء يعتمدون على حواسهم الأخرى في تحويل الأشياء المعنوية الشعورية إلى صور درامية يتم التعبير عنها صوتياً، وهذه المسألة تحتاج إلى قدرات فائقة وموهبة تتجاوز الحس التقليدي . عمار فناناً وإنساناً ينتمي لهذا الصنف من أصحاب المواهب الفذة فهو كفيف العينين الذي يرى بكل الحواس ويترجم ما يراه لصور فنية متعددة الأشكال والأذواق، في فيلم" البريء" للمخرج عاطف الطيب والنجم أحمد زكي لجأ الموسيقار النابه إلى استخدام الأيادي في الضرب على حوائط الزنزانة للتعبير عن حالة النزوع إلى الحرية ورفض السجن، وذلك في مشهد شديد الدلالة تم التعويض فيه بإحساس البطل وأدواته وحواسه الطبيعية عن صوت الموسيقى وآلات التأثير، وهنا نلحظ عبقرية الشريعي الذي فطن إلى أن أفضل ما يعبر عن محنة الإنسان هو الإنسان نفسه، وإمعاناً في تأكيد هذا المفهوم تبرع صاحب الإحساس المرهف بالغناء لمزيد من الإضافة التراجيدية . ولعل صوت الشريعي الأجش قد ساهم فعلياً في إعطاء الإحساس المطلوب ليكتمل المعنى تماماً عن عوار الحرية المسلوبة والديمقراطية الموءودة حسب الرؤية العامة لسيناريو الفيلم. هناك أيضاً ما يمكن أن يؤكد الزعم حول قدرات الموسيقار الراحل الفريدة في صياغة الجمل الموسيقية التصويرية وعلاقتها الدقيقة بالأحداث الدرامية، ومن عينات التفوق في هذا المضمار التأثيرات الكثيرة المتباينة بمسلسل رأفت الهجان وهو أحد الأعمال الفنية الرئيسية التي ساهم إبداع عمار الشريعي في نجاحها ورواجها لكونه كان متصلاً بقضية التجسس والتخابر والبطولات وتوافرت بة مفردات التكامل والتجانس السياسية والوطنية والدرامية . تميز الأداء الموسيقى للفنان طوال رحلته ومشواره بالخضوع في عملية الخلق والإبداع للحواس الذاتية والمهارات الشخصية بعيداً عن ميكانيكية الاحتراف التي تبدو واضحة أحياناً في أعمال الموسيقيين الكبار، فلم ينسلخ الفنان عن نفسه القلقة وروحه التواقة للتجديد فهو من عكف على الغوص في بحور النغم للبحث والاكتشاف والمقارنة والتحليل . ولأنه مشغول بهذه المهمة فقد عمل على محو الأمية الثقافية من خلال برنامجه الشهير المشار إليه بالعنوان ذاته "غواص في بحر النغم" والذي يعد بمثابة درس في اللغة الموسيقية العربية بمقاماتها، البياتي والسيكا والنهاوند والحجاز والصبا والجهاركاه والراست . ولم يقتصر الدرس الأكاديمي الفني على التحليل فقط وإنما شمل أيضاً شروحات مستفيضة للروابط والتداخلات بين المقامات الشرقية والغربية في الألحان والمقطوعات، فضلاً عن الإحاطة بما تدل عليه الأزمنة في السياقات اللحنية المختلفة كالروند والبلانش والكروش والدوبل كروش والتريبل كروش والكاتريبل كروش والنوار وهي مستويات متعددة للزمن النغمي، بالإضافة إلي"السكتة" الموسيقية التي لها نفس اعتبار الأزمنة في الانتقال من مقام إلى مقام أو الانتقال من مستوى لمستوى داخل المقام الواحد . ظل الشريعي يفتش في التراث القديم عما يثري حلقاته الإذاعية فتحدث عن صَفر علي وكامل الخُلعى وسلامة حجازي وسيد درويش ومحمد عبدالوهاب ورياض السنباطى وزكريا أحمد وأشار إلى المدارس التي ينتمون إليها ودورهم الريادي وطعم ومذاق موسيقاهم. ولم ينس وهو المدقق الواعي الأمين، الأصوات التي غردت بألحان هؤلاء.. أم كلثوم وأسمهان وكارم محمود ومحمد قنديل وغيرهم، لقد استطاع عمار الشريعي ذلك الموسيقار الموسوعي أن يوازي في دوره وهدفه وأهميته بين دور الأكاديميات الفنية دون أن يعتبر نفسه صاحب فضل في الاستنارة والتثقيف، بل على العكس ظل متواضعاً لا يرى في إبداعه وتميزه ما يستأهل الإعجاب، ولعل هذا سر عظمته وقيمته الحقيقية . بعيداً عن الفن والمشوار والعطاء يبقى الجانب السياسي الوطني لعمار متوارياً بعض الشيء وإن كان خطابه العام وثقافته الشخصية وشت بأفكاره، لا سيما أنه تبني موقف الرفض من حكم مبارك بعد اندلاع الثورة وجاهر بتأييده للثوار، بل وناشد الرئيس السابق ضرورة التنحي، برغم انه فى وقت استقرار حكم الفاشية كان هو الصديق المقرب، وإنما الرجوع للحق فضيلة والتوبة السياسية تجب ما قبلها . الوقوف بجانب الثوار كان الختام المسك لصاحب السيرة الفنية وهو ما يجعلنا نذكر محاسنه دون غضاضة ونطوي صفحة من مراحل انحيازه للسُلطة ونُسقط من حسابات التقييم أعماله وألحانه التي أخذت عليه في فترة من الفترات، ومن بينها الأغنية الشهيرة "اخترناك"، تلك الأغنية سيئة الذكر التي استنكرها جمهور عمار الشريعي وتمنى أن يمحوها من سجل إبداعه وحياته لأنه يرفض ما يشوش على الفنان ويجعله عرضة للاتهام . هذا الرأي ينطوي على رؤية مثالية يستعصى على أصحابها قبول المبدع كما هو بما له وما عليه وهي بالطبع رؤية لا موضوعية تفترض أن المبدعين قديسين معزولين عن السياق السياسي والاجتماعي ولهم مطلق الحرية في الاختيارات ولديهم قدرات فائقة على تحمل مسئولية الخلاف مع الأنظمة الحاكمة لأن نجوميتهم تحميهم من أي بطش أو غدر أو استبداد، وهي انطباعات واعتقادات غير صحيحة وغير واقعية ، فالفنان مخلوق قابل للسجن والاعتقال والتعذيب . القول الفصل فيما يخص نجمنا الراحل الكبير انه قاوم قدر استطاعته وأحب مصر قدر استطاعته وأتقى شر السُلطة قدر استطاعته .