مر معنا من قبل توصيف الظاهرة الفرعونية من حيث صفتها ووسائلها ،وهي كذلك في كل زمن وظهر لنا من ذلك بشاعتها ودمويتها وخطورتها وأثارها السلبية الفظيعة على الإنسانية ككل ،كما تبين لنا سبل مواجهتها ، وهنا يتساءل كثيرون ؛ما داموا بهذا السوء والفظاعة والبشاعة فكيف يأذن الله لهم أن يمكن لهم، وأحيانا يكون هذا التمكين نسبيا ، فالجواب عن ذلك من وجوه : أولا : أن سنة الله مضت في خلقه أن لا بد من الإبتلاء (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا أمنا وهم لا يفتنون ). ثانيا : أن الله جعل الحياة دولا ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ). ثالثا : أنه لابد أن يتمايز الناس ويظهر فيهم علم الله (ليميز الله الخبيث من الطيب ). رابعا : أنه مهما حدث فهو مما كسبت أيدي الناس (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) ،لذلك نلاحظ أنه ما مكّن لطاغية ما إلا وكان ثمة خطايا أو تقصير كبير من الأمة ،مثل خذلان أهل الحق أو نصرة الباطل أو وقوع في كبائر من القتل والفواحش ،أو كيد الناس بعضهم لبعض أومشاركتهم الطاغية في التآمر والكيد وتحريف الحقائق وترويج الباطل والمنكر . خامسا : أن الدنيا في ذاتها إنما هي دار إبتلاء وتكليف ، ولا تعدل شيئا في جنب الآخره في ميزان الله (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ؛متاع قليل )، ومن ثم فهو يريد من أهل الحق أن يكون لهم شأنهم في التضحية والعطاء ليستحقوا الآخرة كاملة ، وهي من عظم الأجر والمكانة أنها تستحق ذلك . سادسا : أن الله يريد ألا يجعل لهؤلاء حظا في الأخرة (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )( إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )( وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) . سابعا :إن الله بيّن في كثير من الآيات حكما جليلة عظيمة؛ ومن ذلك ماجاء في قوله تعالى :( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)( وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ)( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) . ثامنا :أن للنصر شروطا وسننا ماضية لا بد منها كي يتنزل النصر ،ولايمكن أن تتخلف أبدأ وقد أشرت إلى بعضها في المقالة السابقة ومن هنا فعندما لاتتوافر شروط النصر وسننه في أمة ما كان لابد أن يتأخر النصر حتى تتحقق الشروط والسنن والأسباب ، ومن هنا تظهر مسؤولية المسلمين العظيمة تجاه ما يحدث . تاسعا :أن مقاييس الزمن في حق الله تختلف عن مقاييس البشر : (إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدّون) ( ويسألونك متى هو قل عسى أن يكون قريبا ) فما نراه نحن أمدا طويلا (عشرات السنين ) هو في ميزان الله لاشئ,ومن ثمّ فالبشر يستعجلون أمورا كثيرة ويرون أمورا قد تأخرت كثيرة لكن الله لا يعجل لعجلة أحد (أتى أمر الله فلا تستعجلوه )، وهنا يأتي حديث خباب بن الأرتّ الذي شكى فيه الصحابة إلى رسول الله حالهم وما يتعرضون له ؛فبشرهم لتسيرن الظعينة لا تخاف الله والذئب على غنمها ولكنكم قوم تستعجلون . أقول :ومع ذلك فإذا مكّن للطاغية في الظاهر لإمد ما ؛ فإن لطف الله دائم ،إذ كما أن الله أرشدنا إلى حقيقة ووسائل هذه الظاهرة ؛ فقد أرشدنا إلى سبل مواجهتها ، وفوق ذلك فإن الله يبين لنا ابتداء أنه لا يجوز أن نخضع لقوة فرعون أو أن نخدع به ،وأنه ماهو إلا سراب زائل ،ولتأكيد هذا الأمر يكشف القرآن لنا عن سبع حقائق تتصل بطبيعة الظاهرة الفرعونية عبر التاريخ وطبيعة التعامل معها ،وهذه الحقائق أسلحة ربانية تعمل لصالح المؤمنين دائما. الحقيقة الأولى : أن ثمة عون خاص للمؤمنين من الله سبحانه وتعالى :(إنني معكما أسمع وأرى ). الحقيقة الثانية : أنه مهما أصبنا بقرح فهو يصاب كذلك ،ولن يكون سعيدا لحظة واحدة :(إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ) ،(ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ). الحقيقة الثالثة : أنه بالرغم مما ترون من فرعون من قوة ظاهريا؛ فهو شديد الخوف والقلق غير مستقر:(إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون ). الحقيقة الرابعة : أن كيده مفتاح هلاكه ومردود عليه :(فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) . الحقيقة الخامسة : أنه لا يوفق للخير ولا إلى الإصلاح :(إن الله لا يصلح عمل المفسدين )، (فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد). الحقيقة السادسة : لذا فهو مستكبر دائما ،و لا يرضى أن يسمع لحق ،ولا نأمل منه خيرا: (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ). الحقيقة السابعة : أن مآله إلى الهلاك لا بد ،دنيا وأخرى :(فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) وبعد: فإذا كان هذا بعض الحكم المستنبطة من كتاب الله؛ لبيان لماذا تكون الظاهرة الفرعونية في التاريخ ، وقد رأينا مع ذلك لطف الله للأمة والأنسانية ليعينها على مواجهة هذه الظاهرة ,ومما ينبغي الإشارة له أن الظاهرة الفرعونية تبقى جزأ من ظاهرة الشر والانحدار في حياة الإ نسان ، ولذا سنقف مع هذا الموضوع إن شاء الله. ** جريدة الدستور الاردنية 24 / 8 / 2011