بين صراعات الشركاء بالداخل وتصاعد الدخول الخارجية تمضى الأزمة السياسية العراقية في منحنى تصاعدي يكرس قواعد اللعبة التي أرساها الاحتلال الأمريكي منذ الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003. وفى الوقت الذي تتفاعل فيه أزمة سحب الثقة عن رئيس الوزراء العراقي نورى المالكي، تمضى الأطراف الداخلية والخارجية معا في لعبة خلط الأوراق في ظل تضارب المصالح ، وتصاعد المخاوف من انهيار كامل للعملية السياسية نتيجة التضاغط بين مختلف القوى المؤثرة في المشهد العراقي.
ومع استئثار كل طرف بما لديه من مكامن القوة، ومحاولة إعادة رسم المشهد لصالحه، يبدو الوضع العراقي أكثر هشاشة وأقل اتساقا مع ما تقتضيه تلك المرحلة من تغليب للمصلحة الوطنية العليا للعراق وتناسى المصالح الفئوية والجهوية خاصة تلك التي تأخذ بعدا طائفيا.
وفى الوقت الذي تتحدث فيه الكتل المعارضة عن تحضيرات لمرحلة ما بعد نوري المالكي، إلا أن رئيس الجمهورية جلال طالباني ينتظر اسماً بديلا يطرحه التحالف الوطني الشيعي الحاكم ، ولا يرى أن الفرقاء متفقين على اسم واحد حتى الآن ، حتى أن بعضهم يقول " أن بديل المالكي هو المالكي نفسه ".
وكانت رئاسة الجمهورية العراقية قد أعلنت عن تسلم طالباني تواقيع أعضاء من مجلس النواب لسحب الثقة من رئيس الوزراء نوري المالكي، وأنه أمر بتشكيل لجنة للتدقيق بتلك الرسائل والتواقيع وإحصائها تفادياً لأي طعون أو شكوك في صحتها وضماناً لسلامة العملية الدستورية في البلاد.
ونظرا لحساسة الموقف بالنسبة للرئيس العراقي الذي يعتبر أحد قيادات التحالف الكردستاني الذي يعتبر محركا رئيسيا لسحب الثقة من المالكي فان طالباني يحرص من خلال تسريبات إعلامية على التأكيد بأنه "لايقف بالضد من رغبة الكتل السياسية التي ترمي الى سحب الثقة من المالكي ولكنه يعمل كصمام أمان للعملية السياسية".
إلا أن "عملية سحب الثقة من المالكي تتطلب وجود بديل متفق عليه بين الكتل السياسية وهذا الأمر لم يحصل إلى الآن" ، فيما ينتظر طالباني من التحالف الوطني تقديم بديل للمالكي للشروع بتقديم طلب سحب الثقة في مجلس النواب لتجنب دخول العملية السياسية في نفق مظلم .
وتطالب قائمة "العراقية" بزعامة رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوى، الخصم السياسي الأبرز للمالكي، ورئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، وتيار مقتدى الصدر، بسحب الثقة من المالكي، إلا أن الائتلاف الوطني الشيعي الحاكم الذي ينتمي إليه المالكي يرفض تلك التوجهات مدعوما بقوى سياسية أخرى، وهو ما أدى إلى تعثر إجراءات سحب الثقة، مع وجود أطروحات سياسية بديلة.
حيث دعا ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه المالكي وهو المكون الرئيسي للتحالف الشيعي، الكتل السياسية المطالبة بسحب الثقة عن الحكومة إلى استجواب المالكي في مجلس النواب وطرح ما لديها من ملفات ضد حكومته وأكد أن المشكلات السياسية في البلاد ليست وليدة اللحظة وحسمها لا يقع على عاتق الحكومة فقط بل عبر شراكة مع المؤسسة التشريعية.
وقال القيادي في الائتلاف محمد الصيهود أن "الأطراف السياسية تعرف جيدا أن مشروع سحب الثقة عن المالكي يراد منه تدمير العراق وإشاعة الفوضى السياسية وهي تخدم الأشخاص ولا تخدم الشعب"، حسب قوله.
وأشار إلى أن "رئيس الجمهورية لم يوقع على طلب سحب الثقة عن الحكومة الحالية لسببين أولهما أخلاقي والأخر قانوني"، لافتاً إلى أن "السبب الأخلاقي هو أن الرئاسات الثلاث جاءت بصفقة واحدة وليس من الحق أن يتم سحب الثقة عن احدهما، والقانوني هو أن رئيس الجمهورية لم تتولد لديه القناعة بضرورة سحب الثقة عن الحكومة".
2ويحق وفق المادة الدستورية(61) لرئيس الجمهورية تقديم طلب إلى مجلس النواب بسحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء،كما يحق لمجلس النواب بناء على طلب خمس "1-5" أعضائه سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء، ولا يجوز أن يقدم هذا الطلب إلا بعد استجواب موجه إلى رئيس مجلس الوزراء وبعد سبعة أيام في الأقل من تقديم الطلب، أو يقرر مجلس النواب سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه.
وعلى صعيد متصل أكد رئيس كتلة الفضيلة المنضوية في التحالف الوطني أن مراعاة مجموعة من المعطيات والوقائع الموضوعية لا تشجع على سحب الثقة عن الحكومة الحالية وتفرض اللجوء لخيار الإصلاح والتصحيح. بحسب بيان للكتلة.
وقال عمار طعمة أن "حكومة شراكة استوعبت جميع الفرقاء السياسيين بعد ماراثون طويل من المفاوضات والحوارات المتواصلة، ومع ذلك لم تستكمل كل وزارتها لحد اليوم مع وضوح عمق الخلافات بين الفرقاء السياسيين"، مشيرا إلى أن وحدة التقاطع في مواقفها قد يصعب تشكيل حكومة بديلة تستوعب "كل هذا التنوع السياسي التي تزخر به الساحة العراقية وهو ما لا ينسجم مع طبيعة تنوع تلك القوائم على خلفيات مجتمعية وليس على أساس وتباين برامج أو مناهج حكومية".
وأوضح أن بقاء حكومة المالكي كحكومة تصريف إعمال لفترة طويلة "يؤثر على صلاحياتها والنهوض باستحقاقات وطنية وجماهيرية ضاغطة على مستوى الخدمات وفرص العمل وحتى إدارة الملف الأمني الحساس".
وأشار إلى أن "أخطاء الحكومة الحالية وما رافق مسيرتها من إخفاقات تتقاسم جميع القوائم السياسية الكبيرة مسؤوليتها وعملية تجاوز وإصلاح تلك الإخفاقات تتوقف على تكاتف واجتماع جهود جميع تلك القوى على الأهداف المشتركة ولا يمكن حصر مسؤولية تلك الأخطاء بكتلة نيابية لوحدها".
وأوضح طعمة أن "غموض وإبهام المشروع البديل" للحكومة الحالية وعدم اتفاق المجتمعين على خيار سحب الثقة على برنامج واضح تتفق عليه "ينذر بتفجير وبروز التناقضات فيما بينهم أنفسهم" بعد سحب الثقة مما يدخل البلد بأزمة اكبر ومشاكل أكثر مما تشهده.
ولفت إلى أن "مسيرة التجارب السابقة في التعامل مع أزمات مماثلة أثبتت إمكانية تجاوزها وإيجاد حلول لها بالحوارات واللقاءات الموسعة الصريحة ومثال ذلك أزمة تشكيل الحكومة ووحدة القوى السياسية بقرار سحب القوات الأجنبية من البلاد بينما لم تثمر سياسة الانقطاع بين الفرقاء السياسيين وقتها إلا مزيدا من التأزم وإنتاج الحملات الإعلامية المتشنجة التي انعكست وقتها على عموم الأوضاع في البلاد سلباً".
ومع دخول طرف خارجي على خط الأزمة، وهو، وفقا لما أعلنه السيد مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري، إيران ، فإن الأزمة بدأت تأخذ أبعادا جديدة تصب في خانة الصراع بين مشاريع إقليمه تنفذها دول الجوار العراقي تؤثر في المشهد وتعيد رسم الخارطة السياسية خاصة بعد الانسحاب الأمريكي.
ويؤكد الصدر أن إيران لا تعارض سحب الثقة من حكومة نورى المالكي لكنها تضغط من اجل بقائه في مقابل التزامه بتطبيق بنود اتفاقية أربيل الأولى التي جرى على أساسها تشكيل الحكومة الحالية بعد أزمة عنيفة استمرت حوالي عام، كادت أن تطيح بالعملية السياسية برمتها بسبب إصرار المالكي على البقاء رئيسا للوزراء.
فيما تشير التقارير إلى ألي وساطة يقودها المرجع الديني الإيراني محمد شاهر ودي بين نوري المالكي ومقتدى الصدر الهدف منها تخفيف التشنجات ووقف مشروع سحب الثقة ، خاصة بعد أن كشف معلومات عن ترك الصدر محل اقامته في النجف، وغارده إلى إيران.
في وقت يتجه الصراع السياسي للوقوف عند نقطة الكشف عن القوى التصويتية لمشروع سحب الثقة، وفي حين تدرس القوى المعارضة للمالكي مرحلة ما بعده.
وفي تطور لافت، كشف المتحدث باسم زعيم التيار الصدري صلاح العبيدي، عن لقاء جمع وفد من التيار في طهران بوفد إيراني رفيع المستوى للتباحث بالأزمة الحالية، فيما بيّن أن إيران تؤكد على دستورية سحب الثقة من رئيس الحكومة نوري المالكي، أشار إلى أنها في الوقت نفسه تضغط على أطراف سياسية لإبقاء الأخير.
وأوضح العبيدي أن "الجانب الإيراني أكد أن مسألة سحب الثقة مسألة دستورية"، لافتاً إلى أن "هناك ضغطاً من الجانب الإيراني على بعض الأطراف لعدم سحب الثقة".
وأضاف المتحدث باسم مقتدى الصدر "توجد محاولات من الجانب الإيراني على المالكي كي يلتزم بنقاط اربيل التسع ولو بعد فوات المدة".
وكما تشير الوقائع السياسية، لا يبدو واضحا من هو المرشح البديل، حيث تؤكد قوى سياسية خارج وداخل مجلس النواب العراقي بأنها غير مطمئنة لأي اختيار لخلافة المالكي ، فيما يحذر ائتلاف دولة القانون من نشوب فوضى عارمة في حال سحبت الثقة عن زعيمه نوري المالكي.
ومع تصاعد الخلافات وتضارب المصالح بين تجاذبات شركاء الداخل، وتضاغط الفاعلين الإقليميين وقوى الخارج ، بلغت الأزمة السياسية في العراق مستوى غير مسبوق منذ أن بدأت فصولها عشية الانسحاب الأميركي قبل ستة أشهر.
ويعد التطور الأخير عامل تهديد بات يشل مؤسسات الدولة ويهدد الأمن والاقتصاد، وبعد أن كانت الأزمة تدور حول اتهام رئيس الوزراء المدعوم من طهران وواشنطن بالتفرد بالسلطة، اتخذت منحى أكثر جدية مع طرح مسألة سحب الثقة من المالكي الذي يحكم العراق منذ منتصف العام 2006.
ورغم الصراعات التي لا تنتهي بين القائمة العراقية التي يقودها إياد علاوى مع قائمة ائتلاف دولة القانون التي يقودها نورى المالكي على مجمل القضايا السياسية، منذ تشكيل الحكومة الحالية برئاسة المالكي بعد تحالفه مع قوى شيعية أخرى، واستبعاد علاوى الذي فازت قائمته بالأصوات الأكثر في انتخابات مارس عام 2010، إلا أن ما زاد الخلافات هو دخول الكرد على خط الأزمة السياسية وانشقاق التيار الصدري بمواقفه عن التحالف الوطني.
ويرى مراقبون أنه حتى إذا بلغ عدد الموقعين على سحب الثقة من المالكي 176 نائبا، فإن لغة الأرقام هي لغة لا يجيدها العراقيون ولا تؤثر فيهم لأنهم لا يعطون أهمية للأرقام.
حيث يؤكد المفكر العراقي حسن العلوي الذي قاد انشقاقا هو الأخطر على القائمة العراقية أن "أرقامنا تزيد وتنقص حسب رغبة صاحبها، وهذه المسألة تخضع لعوامل عديدة منها وضع النائب إذا كان في كتلة متماسكة وصارمة أو عقائدية كالحزب الديمقراطي الكردستاني والتيار الصدري وحزب الدعوة، ففي هذه الحالة سيلتزم الموقع بتوقيعه، لكن الآخرين المنتمين إلى كتل غير إيديولوجية وغير خاضعة لالتزامات شرعية فأتوقع أن البعض منهم قد يغيرون من مواقفهم في حال عقدت الجلسة، وهذا أمر طبيعي، فطبيعة التصويت عند غير العقائديين تكون اعتيادية، ويمكن للأرقام بالنسبة لهذه الكتل أن تتحرك صعودا أو نزولا".
ورغم أن الشعب العراقي هو الوحيد صاحب الحق الأصيل في تكريس زعامة المالكي أو سحب الثقة منه، إلا أنه يبقى اللاعب الوحيد الذي لا يستطيع أن يحرك ساكنا ، فيما يمضى اللاعبون بالداخل، ومن خلفهم من قوى الخارج، محركا أساسيا يعيد صياغة المشهد السياسي بالعراق وفقا لمعطيات ربما تكون بعيدة تماما عن رغبات صاحب الحق الأصيل وهو العراقيون أنفسهم.