يثير التقسيم الإداري ونظام الحكم المحلي الحالي لمصر العديد من التساؤلات حول جدواه بوضعه الحالي والفلسفة القائمة عليه ومدى إسهامها في تحقيق التنمية المستدامة لمصر والمصريين. فبسبب النزعة المركزية الشديدة للحكومات المصرية المتعاقبة وإهمال المحافظات، تبوأت مدينة القاهرة مكانة في قائمة المدن الأكثر ازدحاما في العالم وضمت هي وضواحيها أكثر من 20% من السكان الذين ترك أغلبهم العيش في الأقاليم لعدم توافر فرص عمل بها ، كما يزداد عدد سكانها في النهار عنه مساء لدخول نحو 5% من سكان مصر إليها، وكان من نتائج هذه النزعة المركزية أنه يسير في شوارع القاهرة أكثر من 2 مليون سيارة في حين هذه الشوارع مهيأة لنصف مليون فقط، مما يترتب عليه أزمات مرورية و اقتصادية وبيئية وتنموية.
كذلك كانت تبعة المدن للمحافظات لا تبدو قائمة على أسس تنموية، فمدينة زراعية بالأساس مثل شبرا الخيمة تم إنشاء العديد من المصانع فيها وتحولت إلى مدينة صناعية رغم توافر الأراضي الخصبة فيها ومياه النيل تجري من تحتها ، ورغم ذلك مازالت تتبع محافظة زراعية بالأساس وهي محافظة القليوبية، ولما كانت هناك دعوات لضمها للقاهرة ثار المسئولون في المحافظة وقتها ، ليس لأغرض تنموية ، وإنما لأن هذه المدنية تمثل لديوان المحافظة مورد دخل كبير مقارنة بسائر مدن المحافظة الفقيرة نسبيا! أي أن الأساس في تبعية المدن للمحافظة أصبح هو ما تقدمه المدينة للمحافظة وليس ما تقدمه المحافظة لأهل المدينة.
ولما صدر القرار الجمهوري في 17 أبريل 2008 بشكل مفاجئ بإنشاء محافظتين جديدتين هما 6 أكتوبر وحلوان، كثرت التساؤلات عن هذا القرار المفاجئ، وعن تبعة مدينة الصف الجيزاوية لمحافظة الفيوم ، وعن أسباب فصل حي المعادي عن محافظة القاهرة مثلا، الأمر الذي ترتب عليه أزمة دستورية !.
نعم والله أزمة دستورية ، حيث كان مقر المحكمة الدستورية العليا على كورنيش المعادي ، وكانت منصوصاً عليها في الدستور المصري – الذي هن من أكبر الدساتير حجما - أن مقرها القاهرة وليس المحافظة الجديدة محافظة حلوان، مما ترتب عليه أول أزمة دستورية من نوعها في تاريخ الأزمات الدستورية في العالم.
حالياً يبلغ عدد محافظات مصر 27 محافظة ، أكبرهم مساحة محافظتا الوادي الجديد ومطروح التي تشغلان نحو 60% من مساحة مصر، إضافة إلى محافظة البحر الأحمر التي تضم نحو 20% من مساحة البلاد، وهي المحافظات الأقل في عدد السكان حيث تبلغ نسبة الكثافة السكانية فيها نسمتان لكل كيلو متر
السؤال الآن ، أو بالأحرى الاقتراح في هذا المقال ، لماذا لا يتم إعادة تقسيم محافظات الجمهورية بما يتناسب مع الخطط التنموية لكل محافظة ، بحيث لا نثقل كاهل الحكومة المركزية في القاهرة بتلبية احتياجات جميع المصريين التي يمكن لأقاليم مصر التنمية أن تقدمها لأبنائه بما يخدم أبناءها، بل يحقق كذلك الهجرة العكسية من القاهرة المزدحمة إلى الأقاليم والمحافظات الناجحة تنمويا والتي توفر فرص العمل المناسبة والحياة الكريمة لجميع أبنائها!.
لا قلق هنا من محاولات تقسيم سياسي ، فهي إلى الأوهام أقرب، فشرف لكل المصريين – من شرقها لغربها و من شماله لجنوبها - أن ينتموا لمصر المذكورة في القرآن الكريم ، والمحفوظة بعناية الله منذ آلاف السنين ، فقط يجب على الدولة في مصر أن توفر للمصريين التنمية المستدامة والحياة الكريمة ، وصولاً للرفاهية.
هناك الكثير من الدول تقوم بتوزيع محافظاته إلى أقاليم بهدف وضع خطط تنموية لكل إقليم ، بحيث يكون لكل إقليم بمحافظاته المختلفة حكومته المنتخبة ومجلسه المحلي، كما في ألمانيا والولايات المتحدة، بما يستهدف تحقيق التنمية المستدامة والقضاء على البطالة والاستفادة المثلى من موارده ، والتي أهمه القوى البشري!
وهنا في مصر يمكن أن يكون هناك إقليم خاص لقناة السويس ، يضم محافظات السويس والإسماعيلية وبورسعيد، ويستهدف تحقيق الاستفادة القصوى من قناة السويس للاقتصاد المصري، بما يتناسب مع مكانة مصر الحضارية والتاريخية، كأن يتم تقديم خدمات فنية متطورة للسفن العابرة، وتحميل السفن التي تعود فارغة عبر القناة ببضاعة مصرية ، تتناسب مع احتياجات الدول المتجهة إليها، من خلال إنشاء مصانع على جانبي القناة .
وليس كما يحدث الآن من الاكتفاء بتحصيل رسوم مرورية ، وكأننا مجرد دولة ممر ولسنا أصحاب حضارة!
وإقليم لسيناء والبحر الأحمر ويستهدف عودة سيناء إلى المصريين، تنمويا وليس سياسية فقط ، و تحقيق تنمية ساحل البحر الأحمر، وزيادة عدد سكانها من 400 ألف أو أقل إلى أكثر من 4 مليون نسمة عن طريق المشروعات التي يقيها هذا الإقليم بالتعاون مع الأجهزة المعنية بالقوات المسلحة.
مثل مشروع حفر قناة جديدة بين طابا والعريش تستهدف السفن ذات الغاطس الكبير والتي لا تستطيع المرور في قناة السويس، ولتكون حاجز مائي بيننا وبين إسرائيل ، وكذلك مشروع الجسر بين شرم الشيخ والأراضي السعودية، الذي ينبغ ألا يربط فقط بين مصر والسعودية، بل يكون جزا من طريق بري طويل يربط بين شمال أفريقيا وبين الجزيرة العربية والعراق والشام. ، على أن يتضمن لاحقا خط سكة حديد.
هذا الجسر الذي عرضته السعودية من قبل ورفضه الرئيس المخلوع حتى لا يزعج الحجاج المسافرون عليه خلوته في شرم الشيخ !
وكذلك استكمال مشروع ترعة السلام لزراعة وسط سيناء وتنميته.
وإقليم آخر لوسط الدلتا ويضم محافظات وسط الدلتا، ويكون مهمته تطوير الإنتاج الزراعي المصري بحيث ينافس بقوة عالميا،
وإقليم الساحل الشمالي، عاصمته الإسكندرية ، ويعمل على الاستثمار الأمثل لساحل البحر المتوسط بجميع الأنشطة الاقتصادية ذات الصلة : سياحة ، تجارة دولية، مزارع وصيد أسماك، ..
وإقليم الصحراء الغربية ، ويضم محافظتي الوادي الجديد ومطروح، ويستهدف التنمية الاقتصادية المثلى لهذه المساحة الشاسعة نحو 60% من مصر ، عن طريق تشجيع البدو والسكان على الأنشطة والحرف والمهن التي يجيدونها، في مجالات الثروة الحيوانية وزراعة النخيل، على أن تتم دراسة المشروعات التنموية العملاقة في المنطقة ، مثل مشروع منخفض القطارة وتوصيله بالبحر المتوسط، وإنشاء بحيرة مياه ضخمة في المنطقة. على أن يسبق ذلك كله إزالة الألغام من المنطقة الشمالية للإقليم ، والتي زرعتها دول الحرب العالمية الثانية، مع التعويض المناسب عن هذه الألغام من الدول الغربية التي زرعتها تقاعست عن إزالتها بعد مرور نحو 70 عاما
وإقليم الصعيد ، ويضم جميع محافظات صعيد مصر حتى أسوان، وخطته التنموية تتشابه مع إقليم الدلتا ، مع مراعاة أكثر لخصوصية جنوب الصعيد، حيث التنمية السياحية في الجنوب بما يجعل من مدينة الأقصر أكبر متحف سياحي مفتوح في العالم، وتنمية الصناعات والحرف والمهن النوبية لغرض التصدير.
وهناك أكثر من خصوصية أخرى حيث واحة الفيوم التي تقع بين الصحراء الغربيةوإقليم الصعيد، وهي تنمويا إلى الصعيد أقرب.
وكذلك محافظة الجيزة التي تضم الكثير من المعالم السياحية ، التي يمكن من خلال خط سكة حديد سريع في غرب الوادي أن يختصر المسافة من الإسكندرية إلى الجيزة في نصف ساعة ، وإلى الأقصر في أربع ساعات ، وبه نستطيع استقطاب رواد سياحة البواخر في البحر المتوسط ، بحيث يستطيعون زيارة المعالم السياحية في الجيزة وفي أسوان ، في رحلة لا تستغرق فترة السفر والتنقل فيها أكثر من بضع ساعات ، وبه نكون أيضا وفرنا فرص العمل وخططا تنموية في الصحراء الغربية، ووضعنا لبنة “ محور التنمية” فيه.
وكذلك منطقة حلايب المصرية ، يمكنها أن تكون بالفعل منطقة تكامل بين مصر والسودان تمهيدا للاتحاد ، وليس الوحدة ، بين البلدين الشقيقين وبين سائر الدول العربية، على غرار الاتحاد الأوروبي.
يبقى في النهاية أن تؤمن الحكومة في القاهرة بأهمية الحكم المحلي ودوره الرئيسية في عجلة التنمية ، وتعديل التشريعات الخاصة بالحكم المحلي ليقود قاطرة التنمية، بدلا من إثقال كاهل حكومة مركزية بتوفير الدعم فضلا من تحقيق التنمية.
ويبقى أن تخضع هذه الأفكار برمته لحوار مجتمعي شامل، بعيدا عن الاستقطابات السياسية التي تشغلنا حالياً، أو أوهام المؤامرات التي شغلتنا كثيراً عن احتياجاتنا، فمصر للمصريين وستظل للمصرين ، وفخراً لكل من ينتسب إليها!.