السؤال الذي يواجه المراقبين لما يجري في سوريا اليوم: أين سيحط قطار العنف الذي يقوده بشار الأسد؟ .. هل صحيح ما قاله السياسي السوري المخضرم عبد الحليم خدام، عن أن بشار يعد لتقسيم سوريا وإقامة دولة علوية؟. بداية ليس هناك ما يدعو لقبول أي تصريح يصدر عن "خدام" دون أن نتحرى عن أهدافه الحقيقية، لأنه- ببساطة شديدة- من أبرز مهندسي "نظام الأسدين"، والذي ظل لنحو أربعين عاما مسئولاً رئيساً ومشاركاً في معظم القرارات التي اتخذها هذا النظام، إن لم يكن جميعها.
لكن عزمه على الحديث عن الفساد الذي كان مستشريا في سوريا في تلك الحقبة، وعن أن لديه الكثير مما يقوله بحق المتورطين معه .. فأمر يستحق منا المجازفة بأخذ تحذيراته حول توجه بشار الأسد لإقامة دولة علوية عبر إثارة حرب طائفية أو أهلية (سيان) .. على محمل الجد.
لقد ذكر خدام في تصريحاته أن النظام قام بنقل الصواريخ وكافة الأسلحة الاستراتيجية إلى القرى والمدن التي تقطنها الطائفة العلوية. كما قام بسحب جزء من الدبابات والمدرعات والمدافع الثقلية وإخفائها في البساتين والجبال المحيطة بتلك المناطق، ولم يبق منها سوى ما يحتاجه لمواصلة محاولاته قمع المظاهرات والاحتجاجات ضد نظامه.
وحرصاً منا على توخي الموضوعية في إطلاق الأحكام، نرى أن نجعل من هذا الخبر فرضية نسعى للتحقق من صدقها أو خطئها، مستعينين بالمعطيات على الأرض من حيث طبيعة الصراع القائم بين النظام والتظاهرات التي تطالب بإسقاط النظام أولاً، وبالمواقف الإقليمية والدولية المؤيدة لهذا النظام أو المعارضة له ثانيا، وبالأهمية الجغرافية والسياسية لسوريا ثالثا.
المعطيات على الأرض السورية:
من أبرز هذه المعطيات، استمرار التظاهرات والاحتجاجات المتواصلة التي تعم معظم المدن والقرى والضياع السورية ضد النظام، والتي تصادف أن وصل عددها في يوم واحد لنحو خمسمائة "موقع تظاهر".
تليها الانشقاقات المتصاعدة في الجيش النظامي، حيث وضع المنشقون نواة ما أسموه بالجيش السوري الحر الذي حددوا مهمته (مرحليا) بحماية المتظاهرين من بطش قوى النظام الأمنية. ولا يخفى أن هذا الجيش قام بتطوير قدراته العسكرية بصورة مكنته من القيام ببعض العمليات العسكرية النوعية ضد وحدات من جيش النظام السوري وقواه الأمنية ومؤسساته الاستخبارية ، وإن اقتصرت جهوده- في هذه المرحلة- في حماية المتظاهرين كما ذكرنا.
في المقابل، لجأ نظام الأسدين منذ اللحظة الأولى التي اندلعت فيها الاحتجاجات والتظاهرات، لاستخدام الخيار الأمني في قمعها، والتي ما كان لها أن تتسع وتتصاعد على النحو الذي نراه الآن، لولا أنه مارس أبشع وسائل القمع ضد المتظاهرين وتعذيب المعتقلين منهم حتى الموت، ولولا أن تأكد المواطن السوري بأن ما يهم النظام هو استمراره فقط ولا شيء غير ذلك.
غير أن ما يثير المراقب بحق (تجرُّد عناصر الجيش وقوى الامن التابعة للنظام من أية مشاعر إنسانية تحكم تعاملهم مع المتظاهرين)، وهذا ما يدفع للاعتقاد بأن التزام هذه العناصر ب (العنف المغلظ) في قمع التظاهرات، لا يصدر إلا عمن يعتنقون عقيدة تنطوي على تعصب وحقد أعمى ضد الآخر، الأمر الذي تعكسه بوضوح تلك الأعداد الضخمة من الشهداء والمصابين والمعتقلين والمفقودين الذين يقعون يوميا، حيث وصل متوسط عدد الشهداء "في الأيام الأخيرة"، لما لا يقل عن تسعين شهيداً يومياً.
ومما يؤكد تمسك نظام بشار بخيار العنف المغلط في التعامل مع الأزمة، قيام الجيش وقوات الأمن بقصف المآذن وهدم المساجد وتدمير المنازل على رءوس أصحابها في المدن التي تقطنها أغلبية سنية، كما الحال في مدن حمص وحماة ودير الزور وإدلب وغيرها، الأمر الذي تأكد معه أن تعامل النظام مع المدن والقرى التي تقطنها أغلبية سنية، غالبا ما تحكمه معايير أخلاقية تخضع لأطر طائفية ولا شيء آخر.
ولسنا الوحيدون الذي يرون هذا الرأي، فقد ذكرت صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" أن (الصراع الطائفي المسلح) في سوريا بأت واضحاً بين النظام الذي تسيطر عليه الطائفة العلوية، وبين عناصر ما يسمى بالجيش السوري الذي يتكون في غالبيته من أبناء الطائفة السنية في سوريا.
وتذهب بعض المؤسسات البحثية في توصيف الصراع القائم في سوريا، إلى القول بأن هناك الكثير من المؤشرات التي تؤكد أن ما يجري في سوريا حالياً، إنما يمر عبر نفق حرب طائفية يمكن أن تتحول لحرب أهلية، يكون من أبز نتائجها وأعظمها كارثية تقسيم سوريا لدويلات تقوم على أساس طائفي أو عرقي.
والحقيقة التي لا ينكرها أحد أن الهوية الطائفية في سوريا كانت دوما موجودة، لكنها لم تظهر بهذه الصورة المستفزة إلا حين استأثر نظام الأسدين على المراكز القيادية في الجيش والمؤسسات الأمنية والاستخبارية، والتي تشكل- في مجملها- القواعد الأساسية للسيطرة على الحكم، وهذا ما حققه "نظام الأسدين" طوال الأربعة عقود الماضية التي حكم فيها سوريا.
أضف إلى ذلك أن ثمة معطيات موضوعية على الأرض تشير إلى وجود أطر حاكمة لظهور توجهات طائفية في سوريا، وبخاصة بين الطائفتين العلوية والسنية. غير أن تكريس هذا التقابل الطائفي، غير قابل للتحول إلى انفصال على الأرض طالما سادت قناعة بين العقلاء والمفكرين والعامة من ابنائهما، بأن مثل هذا الانفصال لن يخلف سوى الأذي والضرر لكلا الطائفتين. وهذا ما نراه (بالفعل) سائدا في كلتا الطائفتين، برغم مظاهر العنف المغلظ الذي يستخدمه بشار في التعامل مع المتظاهرين، وأغلبهم من أبناء الطائفة السنية.
غير أن ما يستحق المتابعة، تلك التصريحات التي أدلى بها رئيس إقليم كردستان العراقي مسعود البرزاني، عن أن أكراد سوريا- الذين يبلغ تعدادهم- حسب تقديره- نحو مليوني نسمه، لهم الحق في تقرير مصيرهم بعد الإطاحة بنظام الأسدين.
وبرغم أن الأكراد السوريين لم يحدث أن طالبوا من قبل بحقهم في تقرير المصير، غير أن شبح المطالبة بالانفصال قد يطل برأسة إذا ما حاول نظام بشار الأسد إقامة دولة علوية، وبالتالي إمكان تقسيم سوريا لدوليات تقوم على أساس مذهبي أو طائفي أو عرقي.
قد يقول قائل أن ذهاب نظام بشار إلى حد تفتيت الوطن السوري على هذا النحو، أمر لا يمكن تصور وقوعه لأسباب أخلاقية أو وضعية لا مجال لتفصيلها الآن. لكن التسليم- في المقابل- بوقوعه أيا كانت الدلائل والبراهين التي تدل على ذلك .. يتجاهل- في حقيقة الأمر- الأوضاع الإقليمية والدولية الراهنة التي تحيط بسوريا أولاً، وبالمنطقة العربية وما يجتاحها من رياح التغيير العاتية التي تهب على أقطارها ثانياً.
فما يقال عن نقل نظام بشار للصواريخ والأسلحة الاستراتيجية لمناطق العلويين تمهيدا للانفصال عن سوريا، لا يمكن أن يستقيم موضوعياً من الناحية الجيوسياسية لهذه المناطق.
فهي تضم- تحديداً- الساحل السوري من طرطوس في الجنوب وحتى اللاذقية في الشمال، وبعمق يكفل ضم جميع القرى والمدن العلوية بما فيها مطار اللاذقية. كما تشمل المدن والقري التي تسكنها غالبية علوية في المنطقة التي تمتد من حمص وحتى طرطوس والتي تلامس في الكثير منها الحدود اللبنانية الشمالية.
هذه المناطق بمدنها وقرارها، لا يمكن أن تقوى- من الناحية الجغرافية- على الاستمرار في الوجود- على المدى القصير أو المتوسط أو الطويل- اعتماداً على قدراتها الذاتية في المجالات الاقتصادية والعسكرية وغيرهما من المقومات التي تسوِّغ قيام الكيانات المستقلة كاملة السيادة.
وإذا ما تحقق قيامها- افتراضياً- فسيكون بفعل وجود جهات إقليمية أو خارجية، تقدم لها العون في هذه المجالات مقابل ثمنٍ لن يكون إلا على حساب سيادتها واستقلالها.
قد يرى البعض أن ما يمر به نظام الأسدين قد يدفع به للقبول بهذا الدعم ودفع ذاك الثمن المقابل، إذا ما تعرض للهزيمة في صراعه مع الرافضين لنظامه وأغلبهم من السنة.
هنا قد يرى البعض أن الموقف الروسي الداعم للنظام السوري، والذي دأب على معارضة توقيع أي عقوبات عسكرية أو اقتصادية من الهيئة الأممية عليه، وكذلك مساعدته في الصمود أمام رياح التغيير العاتية التي تهب على المنطقة العربية ،،،
،،، قد تكون روسيا الظهير الرئيس الذي يعتمد عليه بشار في إقامة الكيان العلوي، والذي تعززه مشاعر غاضبة لديه ترى في طائفة السنة العدو الرئيس الذي يهدد الطائفة العلوية التي ينتمي إليها، أو لنقل .. تهدد أحلامه في إقامة كيان علوي، يجعل منه نقطة انطلاق نحو إشعال حرب أهلية في سوريا، بغض النظر عن الدوافع والأسباب والأهداف التي تدفعه لإثارة حرب مدمرة كهذه.
هنا يظهر سؤال مهم : هل تقبل روسيا (ولو على المدى المتوسط)، أن تضحي بما يُتوقع أن يأتي به الربيع العربي من تحولات في المنطقة قد تصب في صالحة إذا ما أحسن استغلالها؟ .. مقابل حصوله على قواعد بحرية وبرية في الكيان العلوي الذي ينشده بشار، وتمكن البحرية الروسية من التواجد بصورة أكثر استقراراً في مياه البحر المتوسط ؟.
ومهما يكن من أمر، فإن تصريحات مسعود البرزاني حول منح أكراد سوريا حق تقرير المصير (بعد إسقاط نظام بشار الأسد)، والافتراض القائل بأن روسيا قد تدعم توجهه نحو الانفصال، وإقامة كيان علوي ينطلق منه لإثارة حرب أهلية أو طائفية (سيان) في سوريا أو ربما في المنطقة بكاملها ،،،
،،، نقول: لا يمكن تقويم حجم دورهما في حل المشكله السورية بعيداً عن البحث في أهمية موقع سوريا الجغرافي الذي يجاور دولا عربية وأخرى أقليمية، فضلاً عن الدور السياسي التاريخي الذي تطلع به حيال قضايا المنطقة وبخاصة القضية الفلسطينية من ناحية، والتحالف مع إيران وحزب الله وربما مع العراق من ناحية أخرى، وهذا ما سنحاول تناوله في مقالات تالية إن شاء الله.