الأم عند الشعراء لها مكانة بارزة، خلدها كثير منهم في قصائد عن الحنان والأمومة، "محيط" يتوقف عند أبرزها: يُسأَل الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط في إحدى المقابلات الصحفية عن أمه فيجيب: والدتي كانت امرأة قوية وصلبة.. علمتها الحياة أن تعتمد على نفسها في تربية أبنائها، ولقد أصيبت ركبتها وهي في الثامنة عشرة من عمرها، وعلى أثر ذلك، لم تعد تستطيع طيّها إطلاقاً، وكانت كثيرة الحركة، وأذكر أنها زارتني في أيامها الأخيرة، هنا في دمشق، وكان عمرها يتجاوز الثمانين؛ لكن شعرها ظلّ يصل إلى أسفل ظهرها، وكان الجواهري في زيارتي، وقد أصيب بالذهول من حديثها وفهمها للحياة، حتى أنه كتب خمسة أبيات فيها، لكنني أضعت هذه الأبيات ولا أعلم شيئاً عن مصيرها.
محمد الماغوط أمي كانت امرأة جميلة وشاعرية في طبعها، وتحب الزهور، لكن حنانها وحبّها لنا، لم يمنعها من أن تكون صارمة، حين يتطلب الأمر. أمي أعطتني الحس الساخر، الصدق والسذاجة، رؤية العالم كحلم قابل للتحقق. حين سجنت لأول مرة في "سجن المزة" جاءت من سلمية للبحث عني والاطمئنان على حياتي، وهي لم تزر دمشق من قبل، ركبت البوسطة وجاءت إلى دمشق. الشاعر السوري الراحل رياض الصالح الحسين يقول في قصيدته "أيام": ماما أمازلت تحتفظين ببارودة جدّي القديمة بين بيت المؤونة وزريبة الحيوانات؟ أما زلت تسرحين شعرك بأصابعك النحيلة وتخبزين لأخوتي فطائر الحكمة؟ أنا هنا يا أمي أحتسي فلسطين صباحاً مع فنجان القهوة وأطرد عن جسدها البعوض والأكاذيب أذهب معها إلى المدرسة ونقرأ معاً الصحف في المقهى وحينما أكون حزيناً تجلس بجانبي وتعدني بأشجار البرتقال ماما.. امسحي دموعك بمنديل الجبل ونظفي بارودة جدي بخرقة الأيام فبعد فترة سأعود إليك وفي حقيبتي: زجاجة عطر وقليل من الرصاص أما الشاعر الكبير نزار قبّاني يصف أمه فيقول: أميّ كانت ينبوع عاطفة يعطي بغير حساب كانت تعتبرني ولدها المفضل، وتخصني دون سائر إخوتي بالطيبات وتلبي مطالبي الطفولية بلا شكوى ولا تذمر. ولقد كبرت. وظللت في عينيها دائماً طفلها الضعيف القاصر، ظلت ترضعني حتى سن السابعة تطعمني بيدها حتى الثالثة عشرة، وسافرت بعد ذلك إلى جميع قارات الدنيا، وظلت مشغولة البال على طعامي وشرابي ونظافة سريري، وتتساءل كلما جلست الأسرة على مائدة الطعام في دمشق: ترى هل يجد "الولد" في بلاد الغربة من يطعمه؟ والولد هو أنا بالطبع.
نزار طفلاً ويا طالما طارت طرود الأطعمة الدمشقية الى السفارات التي كنتُ أعمل بها، لأن أمي لم تكن تصدّق أن هناك شيئاً يؤكل خارج مدينة دمشق. أما على الصعيد الفكري فلم يكن بيني وبين أمي نقاط التقاء فلقد كانت مشغولة في عبادتها، وصومها، وسجادة صلاتها، تسعى إلى المقابر في المواسم وتقدم النذور للأولياء وتطبخ الحبوب في عاشوراء ، وتمتنع عن زيارة المرضى يوم الأربعاء، وعن الغسيل يوم الاثنين، وتنهانا عن قص أظافرنا إذا هبط الليل. ولا تسكب الماء المغلي في البالوعة خوفاً من الشياطين وتعلق أحجار الفيروز الأزرق في رقبة كل واحد منّا خوفاً علينا من عيون الحاسدين. بين تفكير أبي الثائر، وتفكير أمي السلفي نشأت أنا على أرض من النار والماء. يقول في قصيدته "خمس رسائل إلى أمي": صباحُ الخيرِ يا حلوة.. صباحُ الخيرِ يا قدّيستي الحلوة مضى عامانِ يا أمّي على الولدِ الذي أبحر برحلتهِ الخرافيّة وخبّأَ في حقائبهِ صباحَ بلادهِ الأخضر وأنجمَها، وأنهُرها، وكلَّ شقيقها الأحمر وخبّأ في ملابسهِ طرابيناً منَ النعناعِ والزعتر وليلكةً دمشقية.. أنا وحدي.. دخانُ سجائري يضجر ومنّي مقعدي يضجر وأحزاني عصافيرٌ.. تفتّشُ –بعدُ- عن بيدر عرفتُ نساءَ أوروبا.. عرفتُ عواطفَ الإسمنتِ والخشبِ عرفتُ حضارةَ التعبِ.. وطفتُ الهندَ، طفتُ السندَ، طفتُ العالمَ الأصفر ولم أعثر.. على امرأةٍ تمشّطُ شعريَ الأشقر وتحملُ في حقيبتها.. إليَّ عرائسَ السكّر وتكسوني إذا أعرى وتنشُلني إذا أعثَر أيا أمي.. أيا أمي.. أنا الولدُ الذي أبحر ولا زالت بخاطرهِ تعيشُ عروسةُ السكّر فكيفَ.. فكيفَ يا أمي غدوتُ أباً.. ولم أكبر؟ أما الشاعر الكبير فاروق جويدة فيكتب قصيدته "لكنها أمي"، يقول فيها: في الركن يبدو وجه أمي لا أراه لأنه سكن الجوانح من سنين فالعين إن غفلت قليلا لا تري لكن من سكن الجوانح لا يغيب وإن تواري مثل كل الغائبين يبدو أمامي وجه أمي كلما اشتدت رياح الحزن وارتعد الجبين الناس ترحل في العيون وتختفي وتصير حزنا في الضلوع ورجفة في القلب تخفق كل حين لكنها أمي يمر العمر أسكنها..وتسكنني وتبدو كالظلال تطوف خافتة علي القلب الحزين منذ انشطرنا والمدى حولي يضيق وكل شيء بعدها عمر ضنين صارت مع الأيام طيفا لا يغيب..ولا يبين طيفا نسميه الحنين وتبقى قصيدة طه حسين "يا أمي ما شكل السماء" الأكثر تأثيراً حيث يقول:
يا أمي ما شكل السماء وما الضياء وما القمر بجمالها تتحدثون ولا أرى منها أثر هل هذه الدنيا ظلام في ظلام مستمر يا أمي مدي لي يديكِ عسا يزايلني الضجر امشي أخاف تعثر أوسط النهار أو السحر لا أهتدي في السير إن طال الطريق و إن قَصُر أمشي أحاذر أن يصادفني إذا اخطو خطر والأرض عندي ينسوي منها البسائط و الحفر عكازتي هي ناظري هل في جمادٍ من نظر يجري الصغار ويلعبون ويرتعون ولا ضرر وأنا ضرير قاعد في عُقر داري مستقر الله يلطف بي ويصرف ما أقاسي من قدر