رواية تدعو لفتح باب التنور بعيدا عن الكهنة والسلاطين الفقر والفتن والدجل آفات الأمم الجاهلة روائيون يزايدون على الخليج ويجرون لجوائزه! والقراء يثبتون أن ولاءهم للأفضل .. لا الأكثر نفوذا المؤلف للحاكم : السياسات الحالية تعجل بخراب مصر طفل صغير ينتقي ركنا قصيا بحجرة البيت، ليقرأ جريدة فرغ الأب من قراءتها، وبشغف يطالع مقال التجليات للغيطاني وقصص المبدعين، ثم حين يشب قليلا ويصبح طالبا بالثانوية العامة، لا يجد من صداقته للغة العربية، غير محبته لموضوعات الإنشاء، بعيدا عن الصرف والبلاغة والنحو!، ينصحه المعلم بأن يقرأ لمحفوظ وإدريس، وتستقر النصيحة بذهنه، لكنه لا يفعل! .. حفر بصمته، ومرت الأيام ليهنئه محفوظ بمسابقة أخبار الأدب عن أفضل قصة، ثم تربطه صلة قوية بالغيطاني والذي قدمه لأول مرة للوسط الثقافي.. يهجر هذا العالم فجأة بعد فجيعته بأخلاقيات النخب، وينغمس بالتدين السلفي المتشدد، يطوف المحافظات كتاجر يركب دراجته البخارية.. ولا يدري كيف يعود ككاتب، وكيف صار اسمه بين أهم فرسان رهان مصر لإعادة أمجاد القصة المصرية ، بحكم القراء والنقاد .. من قال أن الواقع ليس أكثر غرائبية من الخيال؟! سؤال ومشاهد يتذكرها الروائي البارز أشرف الخمايسي، بين محبيه، جاءوا بأمسية ملتقى "السرد العربي" والذي احتفى برائعته "انحراف حاد" .. وتدور حول مواطنين مصريين يستقلون ميكروباص، تتقاطع مصائرهم في رحلتهم من الحياة للموت، والتي بحساب الواقع لا تتخطى الساعات، ولكنها في الحقيقة تمتد بعيدا وتجتر سنوات الألم بذاكرة كل منهم، والغريبة أن كل منهم يبحث عن الآخر فيما هو كائن إلى جواره . رحلة حياة تعري حياة العرب والمصريين، وما فيها من تجارة للدين وللجسد واستبداد بكل مستوياته. والخمايسي يؤكد أنه يقدر الفقهاء وما قدموه من فكر طليعي منذ أكثر من 1400 سنة، ولكن واجبنا التفكير في ديننا بمنطق عصرنا، كما فعلوا هم، وأنا حين أكتب عن خلافة الإنسان على الأرض، أستحضر عظمتي كمخلوق، فهناك من يرغب في تأكيد خضوع المؤمنين، لسبب سياسي بحت، حتى يظلوا عبيدا، ولهذا فهو يرى أن المشايخ خدموا السلاطين أكثر مما خدموا الدين ، وإلا كيف وصلنا لهذه المرحلة من التخلف العلمي بحياتنا! بين الشك واليقين نحن أمام سيرة روحية، لرجل حفر بأظافره حتى حقق مكانة مميزة بالمشهد القصصي، وتأكد ذلك من روايته "منافي الرب" أولى الملحمة الخماسية التي يبحث فيها فلسفيا بقضية الموت والخلود، وقدم قبلها أعمالا هامة ك"الفرس ليس حرا" و"الصنم" والتي لم تلق حظها من الاهتمام النقدي والإعلامي، لأن صاحبها ليس له ظهر بالوسط الثقافي، وآفة بلادنا الشللية. هكذا تحدث الناقد البارز د. حسام عقل، مدير اللقاء عن الأديب، مؤكدا أن لغته مصقولة ، وهو يهوى سبر أغوار القضايا الشائكة، وفي روايته الأخيرة نجده يناقش القضية الإيمانية بمنطق متأمل، كما برع الخمايسي في تقمص أدوار الملحد والمتشكك ورجل الدين ، الإسلامي والمسيحي، على السواء، بنسيج الرواية، وكأنه يطل من بين كل هؤلاء، وهو يذكرنا بالغزالي الكبير صاحب "المنقذ من الضلال" وأشار الخمايسي إلى أن القراء لديهم حاسة فرز عالية، لتصنيف الجيد من الرديء فيما ينشر، وقد أسر له مسئول بهيئة الكتاب بأن أعمال روائي كبير للغاية طبعت بمجلدات خمس ، الواحد منها يربو على 900 صفحة، وعاد معظمها مرتجع ! ولهذا فتكريس الإعلام ومؤسسات الثقافة لبعض الكتاب، لا يعني أن يسايره المتلقون. ويستطرد الناقد مؤكدا أن الرواية تسعى لتجديد الحقيقة الإيمانية، فمع كل إشراقة شمس، يتأمل الراوي ملايين السنوات التي أفعمت بها الأرض دفئا ونورا، تطلع من مشرقها بنفس التوقيت ، بالتأكيد يجري ذلك لأمر جلل! أما لغة الخمايسي فهي طازجة ، عامرة بالموسيقى الشعرية المتعمدة، وكأنك تقرأ أحيانا قصائد نثر، تشع بالإشراق الصوفي في أحيان كثيرة، فترى صور بن عربي ماثلة . كما أنها لغة غير مستهلكة، لأن المؤلف لم يفعل كما فعل آخرون، راحوا يقلدون محفوظ وإدريس وحنا مينا ، ففقدوا ذواتهم. وتمتاز لغة الخمايسي بالتكثيف ، وخفة الظل، فنرى "أبو أميرة" سائق الميكروباص، وهو يسعى لفتح سيارته، التي يعاملها كمعشوقة يستمتع بها لا آلة حديدية، وهي تستحكم ولا تدور برغم أدعية الشيخ والقسيس اللذان يحتلان ناصيتها إلى جوار السائق، وتظل سيارته "تكح وتعطس". موضوعيا، يرى الناقد د. حسام عقل أن الكاتب اعتاد أن يقتحم بجرأة غير معهودة مناطق المهمشين في حياتنا والمظلومين، فهناك نموذج بالرواية لعريف بالجيش يتطاول عليه رئيسه بألفاظ نابية بالأم، بلا ذنب ارتكبه، فيتخيل وقد تعرت أمه أمام الجميع وتغلي الدماء بعروقه ويرد الصاع صاعين لرئيسه الذي يحيله لمحاكمة عسكرية ، فيمتثل الأخير بنفس راضية .. إنه نداء الكرامة الذي يوقظه الراوي ببراعة. ومع رشيد الضماوي، سنذهب لشريحة أخرى من المصريين، هو رجل يعاني العقم، وحين يرزق بطفلة تتوه منه في زحام مولد السيدة ، بينما هو ذاهل يشكر الرب أن منحه إياها! يعتصر كمدا وهو يبحث في الوجوه عن ابنته، فيرى المئذنة وكأنها خنجر مغروس بقلبه، تقع عينه على الصغيرة ولا يراها لأن مصابه أعماه .. تلتقطها لصة وتحولها لفتاة ليل! ولتكتمل الماساة تجلس ابنته سوسن وهو لا يعرفها بالميكروباص، وتحمل طفلا على رجلها لسيدة أخرى، فيما هي الأم الحقيقية لهذا الطفل الذي جاءها من علاقة سفاح مع السائق أبوأميرة! ويظل صاحب العمامة الخضراء، مدعي النبوة، صاحب العلم اللدني، هو النموذج المفتوح لتأويلات القراء، فهو "صنع الله "وفكرة تواتي جميع ركاب الميكروباص بهيئات جسدية متباينة، مرة كنبي ومرة كدرويش متجول ، وفي كل مرة يحرص على أن يردد أنه معظم الله ومذل الداعين للموت! يكسر الخمايسي بحسب الناقد الأرض الهشة التي يقف عليها نموذج الملحد "زياد" ، ولكنه أيضا يطال القسيس والشيخ بنصله الحاد لأن تدينهما الشكلي لا يمنع الكوارث. وهناك مفارقة يضعها الكاتب ليفتح أفق تخيل الأقدار المختلفة، أن الميكروباص الذي يغرق، هناك آخر بنفس الشخوص يمر إلى جانب شجرة الغواية التي ترتقيها حية رقطاء في سعيها لالتهام العصافير، والتي ترمز لشجرة الخلد، وينجو من الغرق، فيما ركاب السيارة الأولى تنتشر جثثهم بشكل غير عفوي بمياه النيل! لقد أعاد الراوي الأمور لنصابها، فالطفل رأسه مقطوعة وموزعة بين أمه الحقيقية وأبيه، والعريف الخائن يقع تحت الزوج الثعلبي الذي اكتشف خيانة زوجته فمثل بها وعذبها ثم ألقى بجثتها بالصحراء. تسونامي الكتابة ويشير الكاتب زكريا صبح، إلى أن الرواية امتازت بلغة مزلزلة كتسونامي، تجسد كل الأصناف البشرية وتجمعهم بسيارة واحدة ، عجلاتها مملوءة بالهواء ، في رحلة متخيلة بين الوهم والحقيقة. وأكد أن الرمز هو مفتاح فهم الرواية. وأن أبطال الرواية أكثر من ال14 شخصية التي تمثل الركاب، فهناك نوال الخائنة وكانت حاضرة بقوة رغم غيابها عن السيارة. ووصف "صبح" حالة المتعة التي أصابته لأيام طوال وهو يقرأ للخمايسي هذه الرواية، وكأنها تشع بنورانية كلماتها ومراميها، كما أنها ليست رواية سهلة تقرأها وأنت مضجع على شقك، فهي تثير فيك الأسئلة أكثر ما تقدم لك الإجابات. وفي قراءته، اعتبر الكاتب أن الرواية تشير إلى أهمية اللحاق بركب التقدم والعلم كنتاج مكمل للدين، أو أن نفهم الدين في ضوء العلم، وأن نتعامل مع أنفسنا كعظماء لا عبيد . كما تثير الرواية أسئلة فلسفية، فالركاب يبحثون عن بعضهم وهم متجاورون، وكأننا نعيد حقيقة أن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا . أما الشاعر السعيد عبدالكريم فأكد أن الخمايسي يهدم الهدم ليبني، فهو يحلحل المسلمات ويخلخل منطق الأشياء ليبني جيلا ناقدا. وقد صادقه الشاعر منذ بداياته وتنبأ له بأنه سيكون روائي عالمي إذا لم يسقط بفخ التكرار، لأنه يرسم كفنان معماري مخلص، ويحرك ذهنك لمساحات فارغة بين السطور . أخيرا، علق الخمايسي على أسئلة الحضور، وقال أنه لا يرتبط بطقوس للكتابة، وأنه فقط يستشعر النفس الإلهي بكل منا، والذي يجعله يبدع ويخلق ، وهذه سر عظمة الإنسان وتفرد على سائر المخلوقات، وللأسف معظمنا لا ينتبه لذلك بحياته، فيظل يفكر ويتفاعل كما يفعل الآخرين، بنظرية القطيع. ويستطرد بحديثه عن الكتابة بأنه بالفعل يترك الشخصيات لتتفاعل بالحياة ويتأملها ويكتبها، وهو يندهش من الرواية التي ذهب الأبطال نحوها بدون إرادة منه! كما تطرق الخمايسي لسؤال حول جائزة "كتارا" والتي لم يقدم فيها هذا العام، وأبدى دهشته من مزايدة الكتاب على قطر سياسيا وتقبلهم جوائزها ثقافيا! وهو ما يفعله أيضا معارضو النظام الحالي مع الجوائز التي تأتي من الإمارات، برغم مزايدتهم عليها كدولة بمجال السياسة، والفريقان يدعي أن الثقافة لا علاقة لها بالسياسة، وهذا ما يدفعنا لأن نسألهم، هل ترضون بجائزة ثقافية من إسرائيل؟؟ والخمايسي يوجه رسالة لحاكم مصر، بأنه ضد ممارساته، ويرى أنها تعجل بخراب البلاد، وأن عليه تقويم كل ذلك، ومع ذلك فهو أيضا يرفض ممارسات النظام السابق جرت علينا ويلات كثيرة . ويرى الخمايسي أيضا أن الأديان لم تنادي إلا بحرية الإنسان، وأن آفتنا في أسافين دقت لنا لتحرمنا من ممارسة حريتنا بالتفكير، وصنعت تابوهات للجنس والسياسة والعقيدة ، في غير محلها. لقد ظهرت داعش على أرضية تنفي الإبداع عن شبابنا العربي، فنحن نحتاج لأن نجل ديننا ونوحد الله وننطلق لنبدع ونفكر ونطور وهذا هو جوهر الدين.