تذكرت الآية رقم 11 من سورة الرعد "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" عندما تابعت نتائج انتخابات المجلس التأسيسي في تونس والتي فاز بها حزب النهضة بقيادة المفكر راشد الغنوشي، وكانت هذه النتيجة متوقَّعة، وهذا ما دفعني لكتابة هذا المقال على ثلاثة أجزاء تتناول مستقبل الحركات الإسلامية في تونس في الحلقة الأولى، وفي مصر في الحلقة الثانية، وفي ليبيا في الحلقة الثالثة، مع التركيز على أسباب سطوع نجم هذه الحركات بعد ربيع الثورات العربية. في البداية يجب التأكيد على أن الأنظمة العربية المستبِّدة التي سقطت أو التي في طريقها للسقوط لعبت دوراً محورياً في تقليص دور حركات وتيارات الإسلام السياسي في السلطة والحكم في المنطقة. ورغم أنَّ الدين الإسلامي يمثل وجدان وثقافة وتقاليد أغلب الشعوب العربية، إلا أن المشاركة السياسية الفاعلة للتيارات والحركات الإسلامية في تلك الدول بقيت مقيدة بسبب الطابع السلطوي لأنظمة الحزب الواحد التي تسيدت على الحكم في العديد من الدول العربية؛ لذلك أثارت ثورات الربيع العربي موجة من التحليلات حول دور الحركات الإسلامية في المستقبل وإمكانية وصولها إلى الحكم. وعلى الرغم من أن الحركات الإسلامية لم تكن ملهِمة للثورات العربية كما لم تكن رائدة لها، إلا أنها سارعت للالتحاق بركب هذه الثورات وانخرطت فيها، ولم تُخفِ سعيها لاستثمارها بمشاركة سياسية حقيقية في السلطة التي حُرمت منها منذ عقود طويلة. ومن المنتظر أن تحقق هذه الحركات فوزاً كبيراً في أية انتخابات قادمة وتحتل عددا كبيرا من مقاعد البرلمانات العربية. ولا نستبعد سعيها إلى التنافس على الرئاسة في يوم من الأيام... لذا سنعرض تجارب هذه الحركات في الدول التي سقطت فيها الأنظمة، وستكون البداية مع تونس الخضراء التي شهدت تسلطاً رسمياً ضد كل ما هو إسلامي خلال فترات حكم بورقيبة المتيّم بالفكر الفرنسي، أو في عهد تلميذه الهارب زين العابدين بن علي. إذن يبقى السؤال: ما هي أسباب فوز حزب النهضة كحزب اسلامي في أولى انتخابات الربيع العربي؟ أولاً: من خلال قراءة تاريخ الحركات الإسلامية في تونس وجدنا تنوعاً لها في هذا البلد الصغير. حيث برز حزب التحرير الإسلامي الذي كان يهدف إلى قلب نظام الحكم في تونس عن طريق القوة وإقامة الدولة الإسلامية ثمّ إعادة تأسيس الخلافة الإسلامية، وقد اتهمته الحكومات التونسية بمحاولات قلب نظام الحكم وكانت أهم هذه المحاولات خلال الفترة من 1973 :1976. ومن التنظيمات الإسلامية العسكرية بتونس طلائع الفداء وهي مجموعة إسلامية مسلحة كان يتزعمها محمد الحبيب الأسود، وقد كشف عنها في عام 1987 عندما اتهمتها السلطات التونسية بالتخطيط لقلب نظام الحكم وإقامة دولة إسلامية أيضًا. إلا أن حركة النهضة التي تأسست عام 1981 بقيادة الغنوشي تعتبر أبرز هذه الحركات الاسلامية ، وكانت في البداية عبارة عن حركة تربوية واجتماعية و ترى أنّ الديمقراطية مجرّد منهج سياسي لا تؤمن به ، ولكن هذه الطروحات والقناعات والرؤى، تبدلت تماما و أصبحت تَعتبر الديمقراطية خياراً استراتيجياً لاحداث توافق بين كافة القوي السياسية الفاعلة في المشهد السياسي التونسي وانعكس ذلك في أداء الحركة في انتخابات المجلس التأسيسي الحالية . ثانيًا: أعتقد أن حركة النهضة في تونس استفادت من أمرين: الأول هو رصيدها النضالي لدى الشعب التونسي، حيث كانت محظورة خلال عهد زين العابدين بن علي، وتم القبض على معظم قيادتها في تسعينيات القرن الماضي، وتم نفي آخرين على رأسهم راشد الغنوشي ، الأمر الثاني هو إيمان قادتها برسالتهم. ويمكن التدليل على ذلك من خلال الاطّلاع على تحليل لراشد الغنوشي في موقع الجزيرة نت نُشر بتاريخ 3/9/2009، خلص إلى نتيجة مفادها أن مستقبل حركات الإسلام السياسي مرتبطة بتقدم الإسلام.. تتقدم بتقدمه وتتراجع بتراجعه، بصرف النظر عن اداء هذه الحركات، والثابت أن الإسلام في حالة صعود كماً وكيفاً والمسألة مسألة وقت.. "وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلكنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" (سورة يوسف- الآية رقم 21). هذه الخلاصة توضح الإيمان الحقيقي للغنوشي برسالته التي سعى عقدين لإنجازها. ثالثًا: يتميز الخطاب السياسي لحزب النهضة عن غيره من التيارات السياسية المنافسة بالقرب من هموم المواطن التونسي، إضافة لنجاحه في المواءمة بين الجانب الحضاري للإسلام والجانب الحداثي للواقع السياسي المعاصر الذي اكتسبته نخبة الحزب خلال فترة نفيها في دول أوروبا. ويمكن الاستدلال على ذلك من تصريحات الغنوشي عن حزبه، حيث قال إن حزبه "يحترم الديمقراطية والحداثة"، مضيفاً أنه يحاول التوصل إلى "مواءمة وتوازن بين الحداثة والإسلام"، كما وعد أيضاً بأن يتحلى بالتسامح بخصوص "مساواة المرأة بالرجل وتبني مواقف أخلاقية ليبرالية". رابعًا: من العوامل التي ساعدت حزب النهضة على تحقيق هذا النجاح، ضعف وتشرذم القوى السياسية اليسارية والليبرالية المنافسة لحركة النهضة عموما والتي وجدت نفسها لا تتمتع بالإعداد والجهوزية الميدانية لمواجهة المنافسة القوية من حزب النهضة المنظم ميدانيا. واستغل الغنوشي هذه الظروف بذكاء سياسي وخبرة عندما بدأ في مشاورات لتكوين حكومة ائتلافية تضم مختلف القوى السياسية التونسية. وأعتقد أن هذا التوجّه هو الضمانة الحقيقية لعبور تونس المرحلة الانتقالية بطريقة سلمية وآمنة. ** نشر بالتعاون مع مركز الدراسات