منذ الحروف الأولى تؤهلنا الشاعرة عبر جملتين ( عشبة لم تجف / وشعاع يثقب خيمة ) للدخول إلى حضرة عالمها الشعري، لتضع وعينا أمام زخم الحياة فى لحظتها الشعرية ( الحياة ) تلك اللحظة التي تجعل الزهرة لا تشعر بجمالها إلا عندما ترانا، فتنثر عطرها .. وتعزف لحنها ( موسيقي الصمت ) الزهرة .... هي الشاعرة سمية عسقلاني ..جنوبية لا تجيد الحكي .. فلن تكون شهر زاد ستقول ما تريده فقط، لا ما يريده شهر يار ولأنها ( صعيدية ) تكره الصبار الذي يحرمها توترها وقلقها الإبداعي، .. وتكره الزهرة كبيرة الحجم التي تحول بينها وبين الغوص في التفاصيل والمنمنمات التي ترى الحياة عبرها، تستدعي عالمها، وتؤكد وجودها الشعري عبر قلقها ( تعض أقلامها من الخلف ) وتذود عن حياض عالمها وخمش كل من يهدده ( تعتني جيدا بأظافرها ).. تدعونا الشاعرة عبر قصيدتها الأولى ( صولو الريحان ) هذا العزف المنفرد الذي يؤكد فرادتها، ( مغمضة العينين ) ها هي تفتح نوافذ الروح لترى وتعرج نحو الصفاء الشعري لتحدق ( في الدوائر الصفراء التي تتوالد في سكون ) تنزلق في هدوء وينساب الشعر .. تحملني – الدوائر الصفراء – إلى سراديب العتمة .. حيث المجهول من قيم جميلة مدهشة رغم الخوف .. ( منذ وضعت يديك على جفوني ) ، تسربلت في وشاح الشجن / لأنني رأيت ... هنا تكشفت رحلة معراجها عن الحقيقة الخالدة بالوجود .. وجودها وليس أدل عليه من الشعر .. في المقطع الثاني من القصيدة ( علمت منطق الزهر / والأشجار تعرفني ) حددت خيارها إذن ... ( ولكنها الطيور ، تفضي بأسرارها للكون / وتخطئ نافذتي ) لن يحضر لها الهدهد بالخبر اليقين عن الشعر ، لأنها لا تفهم إلا لغة الزهر تستمع إلى عزفه وتنساب روحها عبر عالمه السحري، والطير يضن عليها بأسراره الكونية التي تطوق لمعرفتها.. الريحان زهرة مركبة .. مشتبكة الأغصان / صريحة العطر / وتبكى .... لا تنام .. ) تتناص هذه الصورة الشعرية بذات الصور التى احتشدت بها رواية الروائية العراقية بتول الخضيري ( كم بدت السماء قريبة ) عندما كانت تواجه صور القتل والقذائف التي يلقيها الطيران الامريكي على العراق بابتكارات أبيها للعطور المقطرة من الزهور ويصمم أسم العطر على درجة الايحاء والاحساس به .. هل تواجه الشاعرة قتامة الواقع بالعروج إلى عالم اخر القصيدة الثانية ( قرنفلة الشتاء ) تواصل فيها الشاعرة الرسم ب " حروف شعرها " ، وألوان طيف لانهائية قصتها الأثيرة إلى روحها، وتجيب بصوت عال : نعم أنا أنثى. – أميرة - تؤكد ذلك عبر مفرداتها، وصورها التي تعيد به خريطة الكون الذي تراه وتصعد بحلمها عبر طموح شعري نحو أفق لا نهائي تصرخ لأنها تقترب من تخوم زمن لم تقل فيه كل ما أرادت، وقلبها المتخم بالحب والشعر، يضغط على وجودها لتساعده على البوح .. كآبة ديسمبر .. هذا الشهر الذي يسكن كنقطة تفتيش نهائية، ويطلب منا كشف هويتنا، وحساب ختامي عن عام مر وتناثرت أوراقه، نخرجها وقد حالت أشياء صغيرة تافهة بيننا وبين البوح بكل ما في وجودنا من شعر ديسمبر يعترض مسيرتنا بوجه كئيب، ولكي تعرفوا ملامحه جيداً ( تلك التي تتكدس على بوابة الشتاء / عند انحناء الوقت على سقف غرفتي ) تستعيد الشاعرة بهذا قدرة القبض علي زمنها ( الشعري ) لتعيد تشكيله عبر شروطها هي، لأنها شاعرة - ملكة - بالرغم من أنه.. ( لم يكن صرح ممرد لأكشف عن ساقي ) هنا تضع حدا فاصلا بينها وبين بلقيس، فلن يحملها الجني إلى سليمان الملك، ( وأحلم بالعرش يأتي طائراً على كف جنيَّ ) فالعرش سوف يأتي لها، رغم ما أكدته الشاعرة عبر كلمتين ( كان هلام ) كآبة ديسمبر .. تتدحرج فوق النوافذ / وكان الزجاج يعكس صورة مشوشة/ لوحة غائمة ... الهلام يأتي عبر مملكتها ( الشعرية )، وقد رسمت لوحتها بلا تفاصيل، تتداخل ألوانها وتستقر لبرهة، عاجزة ( وكنت أتكور كقطة ) أخفي أظافري ( تحت عباءة الليل / وتحلم بعرش مملكتها ولكنها عرفته إنه القرنفل / متعدد اللون مثلى ) ومثلها وقد استقرت كقطة تحت عباءة الليل، هو الآن – القرنفل – يغلق براعمه في انتظار الشمس،.. وتطلق سؤالها الوجودي: هل كان الحب إذا فكرت في الدفء ؟ تتأهب لدخولها حافية عبر بوابة الحب .. في قصيدة ( " سوناتا " الياسمين ) تنتقل الشاعرة إلى تأكيد أنوثتها وقد اختارت قالب السوناتا وهو أعقد شكل في الموسيقي لتعزف سيمفونيتها، وأنساب لحنها المعد ( وكل شيء معدُ / أريكتي بالكاد تكفي تمدد ساقي ) لم تكن قادرة على أكثر من الحلم وصورة للحب علقتها على جدار القلب، وانقشع ضباب الهلام عن ...( ياسمينة تتكئ على سور حديدي .. وتلقي بأزهارها على رصيف مستباح ) .. وجاء هذا الذي بينها وبينه تنقسم التضاريس/ التئام الرمل بالماء / ولي وحدي تلة الأحزان ) هذا النفس الأنثوي الخالص والذي ألقت بكل ثقله وتبعاته على ياسمينة تتكئ على سور حديدي، ما إن ألقى برغبته حتى تبدد العطر ليتحول إلى لحن فريد .. نكمل بقية قصائد الديوانقف فأنت هنا في حضرة الشعر، حيث يلتقط الشعراء، وتر الإحساس والعزف المعبر عما عجزت عنه كلماتنا.. قصيدة جديدة للشاعرة الدكتورة سمية عسقلاني بعنوان ديسمبر، الشهر الذي اكتشفت فجأة قدرته على صناعة الشعراء، ينبت شجناَ يمسد على عيوننا بألوان المعاني ويعبر على أنوفنا بعطر مضمخ بذخات الندى العذري، هذا الشجن المبلل بحنان غامر وحنين إلى بقعة ضوء ( تختبئ بين طيات روحي / هوية أشهرها في مواجهة الذكريات) ....... ديسمبر.... ذاك الذي أسميه ... سلة أحزاني تلك التي تتبخر طول العام تتكثف تحت سطوة البرد وتسقط على رأسي لحظةٌ دافئةٌ وحدها تقدر أن تنزع الشوك من الصبارة التي تنبت تحت الغطاء حين مددتُ يدي لمستُ وجهي بارزاً كنحتٍ قديمٍ هذه الذكريات لم تمت.. لحظة دافئة.. حية، عامرة بالمعاني والصور الشعرية هي وحدها القادرة على نزع الخوف والتشوه، وإعادة الحياة إلى وجهي، رغم هزيمة الشتاء لي .. لكنك نسيتَ أن الشتاء الذي يهزمني يحمل بين طياته ممحاةً يمر بها على صورتي ) الضعيفة الواهنة رقيقة كحال الشعراء دوما، عندما يتراجعون أمام شراسة الوجوه، وفظاعة الواقع وقسوة القلوب التي فرغت تماما من معاني الحياة، فيفقد الشعراء ملامحهم الحقيقية، ويبحثون عنها وقد انتابهم الخوف من فقدانها ) كأني ذبلت أو... لكأني تساقطت في خريف سحيق لأنك – أيها الشعر- خبأتني في جوف ورقة ألقيت بي في سطورٍ فارغة يا للعذاب! هذه الصرخة الملتاعة من اليأس بعدما تحولت الوجوه، وتبدلت المشاعر، حتى أنت أيها الشعر أفقدتني تفاصيل كثيرة، وشعر أكثر، ولم اعد أنا تلك التي كنتها قديما، لم تكن أمينا معي، لم تنصع للمعاني التي أمليتها عليك، وانتابني شك كبير عارم بأنك ...... ذاك ذاك اللعاب المر الذي يملأ حلقي كلما رأيتُ زهرةً تموت أو شجرةً تُقْتَلَع أورثتني أنت براعم الألم .. كنت واثقة من تمردك عليَّ، لم ترع حق الصداقة، وحق العهود فيما سبق لأنك لم ترع حق الحياة ( كلما رأيتُ زهرةً تموت أو شجرةً تُقْتَلَع ) وترى عجزي عن بث الحياة فيها، وتركتني وحيدة بدونك.. كنت فيما مضى تحاصرني ، كأقفاص العصافير فمتى كنتُ وأين أكون .. ( فمتى كنت ... وأين أكون ) تنتهي القصيدة بكلمات أربع فقط هم من يعطون فلسفة عميقة للقصيدة، وأيضاً للشاعرة ذاتها، تنضوي هذه الفلسفة، على أداة تحليلية نستطيع أن نكشف من خلالها عن موقف مفصلي، تحذر فيه الشاعرة .. الشعر عينه، بل تنكر وجوده، فمتى كنت؟! ولكن في ذات اللحظة التي تنكر وجوده، ولأن وجوده هو وجودها، تنتابها الحيرة والخوف من السقوط في صحراء تيه لا تجد فيها نفسها ..