تشكل الفنانة الراحلة صباح "حالة ابداعية خاصة" وهناك من يؤكد انها صاحبة تأثير لن يمحى في مسار التاريخ الفني والثقافي للبنان بقدر ماتؤشر بوضوح للتفاعل الفني والثقافي بين بلاد الأرز وارض الكنانة وحقيقة الدور المصري الحاضن تاريخيا لكل المبدعين العرب. انها صباح "صاحبة الحنجرة الفرحة" والمبتسمة دوما والتي تعانق الحياة بحلوها ومرها ، والباحثة عن السعادة والمثيرة للجدل وهي ايضا تجسد قيمة العمل ، وتركت تاريخا باقيا عبر 83 فيلما سينمائيا و 27مسرحية ناهيك عن مئات ومئات الأغاني تزيد على ثلاثة الاف اغنية. بحسب وكالة أنباء "الشرق الأوسط". وهكذا يكون من الطبيعي ان توصي صباح محبيها ألا يحزنوا عند اعلان وفاتها وان يرقصوا "الدبكة" بدلا من البكاء و الدموع حسبما قالت ابنة شقيقتها كلودا عقل ، بينما قال الوزير اللبناني السابق والسياسي الشهير وليد جنبلاط في تغريدة على موقع التدوينات الالكترونية القصيرة :" مع رحيل صباح يرحل ماض جميل للبنان لن يعود" . وفيما نال خبر رحيل الشحرورة معدلات قراءة عالية بالصحف المصرية وتعليقات عديدة على المواقع الالكترونية لهذه الصحف فضلا عن مواقع التواصل الاجتماعي يتبدى اهتمام المصريين بصباح التي قضت عن عمر يناهز 87 عاما في الاحاديث العفوية بينهم على المقاهي وفي وسائل النقل العام. ولعل هذه الحوارات والأحاديث العفوية في الشارع المصري تتفق على ان الفنانة صباح كانت نموذجا مضيئا للاحتفال بالحياة والبحث عن السعادة رغم كل المنغصات واسباب الكدر ناهيك عن احترامها الأصيل لقيمة العمل التي تميز كل فنان كبير . ووصف الكاتب اللبناني سمير عطا الله الفنانة الراحلة صباح التي رحلت فجر الأربعاء الماضي بأنها "صوت لبنان" مضيفا في زاويته بجريدة الشرق الأوسط اللندنية ان "لبنان شعر فجأة بأهمية فقدانها" وقال انه "سيفتقد جمالها وجمال روحها و جمال بساطتها التي كانت بلا حدود". وفي اشارة لأهمية اعتزال الفنان في الوقت المناسب كما فعلت جريتا جاربو "صاحبة اجمل عينين في هوليوود ايام السينما الصامتة" ، وبريجيت باردو نجمة الشاشة الفرنسية وليلى مراد ، اعتبر سمير عطاالله ان "صباح لم تعرف كيف تبتعد عن الأضواء التي اخذت تحرق رموشها وراحت حرارتها تذيب مساحيقها". وأضاف أن صباح "لم تقرأ قول المتنبي في جمال الوجوه وكيف يحول" مشيرا الى انها في سنواتها الأخيرة كانت "امرأة فقرة معوزة شبه مقعدة تشكو وحدتها وآلامها وانفضاض الخلان" ، كاشفا عن أن الفنانة صباح غضبت منه قبل اعوام لأنه قارنها بهيفاء وهبي في الأغاني الخفيفة. ورغم تأكيد الكاتب الصحفي اللبناني سمير عطا الله على اهمية اعتزال الفنان في الوقت المناسب فان اي قاريء لكتاب "أنا فيلليني" وهو بمثابة سيرة ذاتية للمخرج الايطالي الشهير فديركو فيلليني سيخرج بانطباع اكيد في المقابل حول الصعوبة البالغة لاتخاذ اي فنان قراره باعتزال الفن ان لم يكن استحالة هذا القرار عند بعض المبدعين الكبار مثل فيلليني. فهذا المخرج الراحل كان يتمنى دوما العمل وصناعة افلام جديدة وكان توقفه عن العمل يعني توقفه عن الحياة ، فيما قال صديقه الحميم الممثل الراحل مارشيلو ماستروياني اثناء تأبينه ان كل ماكان يبتغيه هو العمل ، مؤكدا على أن السنوات الأخيرة التي قضاها فيلليني بلا عمل "حطمت قلبه" وافضت لنهايته. ويكاد يكون هناك اجماع بين كل من عرفوا الفنانة صباح على انها كانت تجزل العطاء للآخرين وتساعد الغير فيما لن يكون من قبيل المبالغة التأكيد على اهمية اصدار كتاب على مستوى رفيع عن هذه الفنانة الكبيرة ليثري الحياة الثقافية والفنية العربية ، تماما كما يحدث في الغرب حيث تتوالى الكتب عن كبار الفنانين هناك واحدثها كتاب عن الفنانة الايطالية صوفيا لورين التي يناهز عمرها ال80 عاما غير انه صدر بقلمها وعنوانه "امس واليوم وغدا :حياتي" وهو بمثابة مذكرات لها وحظى باهتمام واضح في الصحافة الثقافية الغربية وهو ماينبغي ان يحدث في عالم الكتب و الثقافة العربية مع فنانة في حجم وعطاء صباح. ويتوجه وفد من اتحاد النقابات الفنية في مصر اليوم "السبت" الى بيروت للمشاركة في تشييع جثمان شحرورة العرب وتقديم واجب العزاء ، ويضم كل من مسعد فودة نقيب المهن السينمائية ورئيس الاتحاد العام للفنانين العرب ، والمخرج عمر عبد العزيز وكيل اول النقابة ، والفنان سمير صبري ، وخالد بيومي امين صندوق نقابة المهن الموسيقية. كما يشارك في الوفد الدكتور اشرف زكي الذي كان قد اثار جدلا كبيرا اثناء رئاسته لنقابة المهن التمثيلية حتى استقالته قبل نحو اربعة اعوام ، حيث إتخذ قرارا بتحديد عدد الأعمال التي يقوم بها الممثلون غير المصريين سواء في التلفزيون او السينما. واذ افتتح معرض بيروت العربي والدولي للكتاب في دورته الثامنة والخمسين امس "الجمعة" كحدث ثقافي مبهج بالضرورة اضافة لاحتفاله الفني بالمطرب الأصيل نصري شمس الدين فان لبنان كان على موعد في المقابل مع احزان ثقافية بالاعلان عن وفاة الشاعر سعيد عقل بعد نحو يومين من وفاة شحرورة العرب . وهكذا تزداد الأحزان مع نعي الناعي للشاعر اللبناني الكبير سعيد عقل الذي قضي عن عمر يناهز 102 عام فيما قدم للأدب العربي اسهامات لن تنسى في الشعر والمسرح رغم نزعته نحو نوع من الانعزالية اللبنانية وعرف بعلاقته القوية بالسيدة فيروز التي غنت له العديد من القصائد كما ارتبط بصلات وثيقة مع الشحرورة صباح. وكما لاحظ سمير عطاالله فقد احتفلت فيروز باكمال التاسعة والسبعين يوم غابت صباح عن 87 عاما بعد قليل من غياب وديع الصافي "ثلاثي مجد لبنان الفني وقلادته الذهبية في القرن الماضي" بينما قال النائب اللبناني هادي حبيش في تغريدة الكترونية فور علمه بوفاة الشحرورة :"اليوم بدأت حياة صباح في مسار تاريخنا الفني والاجتماعي والثقافي". وشحرورة العرب كانت تهوى الغناء منذ صغرها ولفتت موهبتها المنتجة المصرية واللبنانية الأصل آسيا داغر فأتفقت معها على تمثيل ثلاثة افلام شكلت بداية انطلاقتها في عالم الفن. والفنانة الراحلة صباح تعبر عن علاقة التلاقح الثقافي والابداعي بين اللبنانيين والمصريين في مجالات شتى من بينها الصحافة والسينما والمسرح ، وهي ايضا على نحو ما منجز فني مصري وتعبير عن اهمية الدور الثقافي والفني للقاهرة التي توصف بهوليود الشرق وحاضنة كل المبدعين العرب وخاصة في سنوات الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. ولعل قصة الشاعر الكبير محمد الفيتورى فى الحياة والابداع دالة لفهم اهمية الدور الثقافى المصرى الذى تجلى على لسان الشاعر الراحل كامل الشناوى وهو يقدم ويزكى الشاب محمد الفيتورى للعمل فى مجلة اخر ساعة المصرية فى بدايات خمسينيات القرن العشرين ويقول لرئيس تحريرها حينئذ محمد حسنين هيكل:"ان مصر تاريخيا هى صانعة النجوم فى الثقافة العربية" متنبئا لهذا الشاب الذي يحمل دماء سودانية وليبية ومصرية بأنه سيكون نجم جديد من نجوم الابداع الشعرى تقدمه مصر للعرب. ومن المفارقات التى تبعث على التأمل انه رغم الدور الريادى والنبيل للثقافة المصرية على مستوى محيطها العربى فان اهتمامات المصريين بالواقع الثقافى فى هذا المحيط اقل بكثير مما ينبغى. كما أن للظاهرة انعكاساتها السلبية حتى على مستوى التنافس فى الانتاج التلفزيونى فى مجال الدراما بين مصر الرائدة عربيا فى هذا المجال وبين دولة كتركيا التى تكرر الحديث في فترة مضت عن "غزوها التلفزيونى الدرامى للسوق العربية ومن ثم تأثيرها الثقافى فى مزاج المشاهد العربى وذائقته". واذا كان للأمر علاقة بما يقوله المصريون بل وغير المصريين ايضا حول الثراء الثقافى المصرى لحد الاكتفاء الذاتى وان "مصر هى ام الدنيا" بما يبرر على نحو ما ظاهرة الانعزال الثقافى فان الصينيين الذين كانوا من منظورهم الثقافى - التاريخى يرون بدورهم ان بلادهم هى "الدنيا" وماخارجها هو خارج العالم قد دعتهم الضرورات الضاغطة للانفتاح الثقافى على بقية الدنيا التى كانوا لايعترفون بها حتى اصبحوا من اكثر الشعوب انفتاحا وتفاعلا مع "الآخر". وقد تحتمل امريكا بمساحتها الهائلة وموقعها وتكوينها الديموجرافى من مهاجرين من اغلب بقاع العالم ظاهرة العزلة النسبية عن بقية العالم وقد تكون الظاهرة فى وقت ما تنطوى على مزايا بالنسبة لها وهذا مايفسر تاريخيا وجود تيار كبير وفاعل فى الحياة الأمريكية تبنى مسألة العزلة عمدا من منظور مايتصوره كمصلحة امريكية. وهذا امر مختلف كل الاختلاف بحكم عوامل عديدة فى مقدمتها البعد الجغرافى والموقع عن الحالة المصرية فمصر ليس من مصلحتها الوطنية ان تعزل لا عن محيطها العربى ودائرتها الاسلامية ولا عن العالم الخارجى خاصة مع توالى متغيرات العولمة وتحدياتها . إن مصر التي احتضنت "الصبوحة" تشعر بوجع الرحيل لكنها بذائقة شعبها العاشق للابداع والفن ستغني ابدا مع شحرورة العرب التي عانقت الحياة وانتصرت لقيمة العمل ومعنى العطاء..ستبقى صباح اغنية للأمل وسيرة تثير الجدل غير انها تحمل دوما عبير الحب وطقوس العشق وملكوت الابداع.