كشفت دراسة حديثة عن مفاجأة جديدة، وهى أن التيار الذى له الفضل والأساس النظرى والعملى فى قيام المشروع الصهيونى على ارض فلسطين ، لم يكن التيار الدينى اليهودى القومى كما هو شائع ، فلقد كشف الباحث حاتم الجوهرى فى كتابه: خرافة التقدمية فى الأدب الإسرائيلى، الصادر حديثا عن سلسلة "كتابات نقدية" بالهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة فى 448 صفحة من القطع المتوسط وبمقدمة من د. عمار على حسن؛ أن هناك تيارا صهيونيا مجهولا هو الذى له الفضل فى تقديم التأسيس النظرى والجانب العملى للمشروع الصهيونى على أرض فلسطين العربية . وتحدثنا الدراسة عن وجود تيار صهيونى سياسى يدعى " الصهيونية الماركسية " لم تسلط الأضواء عليه من قبل ، وأن هذا التيار هو الذى وضع البناء النظرى للصهيونية وأقام المستوطنات الاشتراكية وأنشأ أجنحتها العسكرية التى كونت بعد ذلك الجيش الصهيونى الإرهابى ! وتتناول الدراسة بالنقد والدراسة الأدب الأيديولوجى الذى يكتبه أدباء هذا الفصيل الصهيونى الماركسى المزعوم ، مفندة ادعائه بالانتماء للماركسية ، وذلك من خلال أحد زعماء هذا التيار وهو الشاعر والأديب الصهيونى " يتسحاق لاءور " فى ديوانه السياسى المعروف " مدينة الحوت " . يأخذنا الكتاب فى فصله الأول فى رحلة عبر التاريخ إلى أواخر القرن التاسع عشر ، حيث يتتبع بداية ظهور اليسار اليهودى فى أوربا وتحوله للصهيونية وتأسيس الأحزاب الصهيونية الماركسية ، وعلاقة الصهاينة الماركسيين بالفلسطينيين العرب ممن تبنوا الفكر الماركسى ، وينقد الكتاب محاولات التركيز على يسارية هذا الفصيل الصهيونى وتجاهل دوره التاريخى فى بناء المشروع الصهيونى ، حيث يرى المؤلف أن تيار الصهيونية الماركسية فى نهاية الأمر ليس إلا فصيلا صهيونيا ينتمى للمشروع الصهيونى ، لكنه يحاول أن يقدم وجهة نظر مغايرة لطبيعة المشروع ، فمن وجهة نظر المؤلف يرى أن تيار الصهيونية الماركسية يحاول أن يقدم نوعا من الاحتلال التقدمى ! الاحتلال اللاعنصرى غير القائم على فرز دينى أو عرقى ! مدعيا أن كان يسعى لتقديم نموذج ماركسى طليعى لدولة يهاجر لها اليهود ويتعايشوا مع العرب ، تقوم هذه الدولة مرحليا بالتعاون مع البورجوازية المحلية والعالمية ، ثم تنقلب عليها فيما بعد وتشارك فى النضال من أجل الأممية الشيوعية العالمية ! ويشن المؤلف هجوما لاذعا على دعاة هذا المنطق ، قائلا أن التاريخ أثبت فشل فكرة فرض الاختيارات على الشعوب باسم : الدين أو القومية أو الماركسية ، وأن أهل فلسطين لم يختاروا الاندماج مع شتات اليهود فى مشروع ماركسى طليعى !! وحين ينتقل الكتاب للحديث عن الأدب الصهيونى فى فصله الثانى تكشف الدراسة جانبا مهما لم يتناوله العديدون من قبل ، وهو فكرة المسكوت عنه فى الأدب الصهيونى ، حيث يقول المؤلف بجرأة أن الأدب الصهيونى الذى يدعى الانتماء لليسار هو أدب جزئى فى تعاطيه مع الصراع العربى الصهيونى والقيم الحاكمة له ، أدب لا يملك رؤية شاملة ومنهجا كليا يعطى إطارا عاما لحقائق الصراع التاريخية ، ويفاجئ الكاتب الجميع بوضع ظاهرة " أدب الاحتجاج " عند اليسار الصهيونى فى سياق مغاير ، حيث يرى أن الأدب الصهيونى تغيب عنه بوضوح تام قيم : الحرية والحق والعدالة ، التى تمثل أهم المسكوت عنه فى الأدب الصهيونى ، فى حين يحضر بديلا عنها قيم : التمرد والاحتجاج والرفض ، أى قيم الرد فعل .. قيم فضفاضة ليست قيم فاعلة صاحبة رؤية جذرية للصراع ، لأنها لو تعاطت مع القيم الكلية مثل الحرية أو الحق أو العدل ، فسوف لا تجد لها مبررا ببساطة للوجود داخل أرض مغتصبة ! يقول المنطق بعودتها لأهلها . أما فى الفصل الثالث من الدراسة فيتناول الكتاب الشاعر " يتسحاق لاءور" ويتعرض لنشأته ودوره الثقافى والأدبى الذى يربطه البعض بما بعد الصهيونية وحركة النقد الأدبى التى ارتبطت وتداخلت مع حركة المؤرخون الجدد فى إسرائيل ، وأهم ما فى هذا الفصل هو تناول المؤلف لمفاهيم نسبية كثيرة يطرحها اليسار الصهيونى المزعوم ، منها : ما بعد الصهيونية ، والمؤرخون الجدد ، حيث يرى المؤلف أن هذه المفاهيم هى عودة لأطروحات وأدبيات الصهيوينة الماركسية القديمة ليس إلا ، فيرى أن ما بعد الصهيونية ليست سوى محاولة من اليسار الصهيونى لإعادة تقديم نفسه للمشهد السياسى المحلى والدولى ، بوصفه صوتا مغايرا داخل المشروع الصهيونى ودولته ، وهكذا موقفه تجاه تيار المؤرخون الجدد حيث يقول أن هذا التيار فى النهاية هدفه ليس تفكيك المشروع وإنما محاولة إصلاحه وجعله أقل عنصرية وتطرفا ، وكأن لسان حال المؤلف يريد القول أن فكرة الصهيونية الماركسية التى تحاول تحليل وحل المشكلة التاريخية لليهود فى إطار مادى واقتصادى ، كان يمكن أن تكون مقبولة فى حالة واحدة فقط ، وهى حالة أن أقيم هذا المشروع على أى مكان آخر غير فلسطين ، مكان لا يعيد اليهود لذاكرتهم التاريخية والدينية ! إذا صح انتماء هذا التيار للفكر الماركسى بمرجعياته المعروفة فكريا . وفى الفصل الرابع ينتقل الكتاب لتناول علاقة الشاعر وأدبه بأفكار الحداثة وما بعدها ، حيث نجد محاولة لربط ازدهار أفكار ما بعد الحداثة فى نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات التى تفاعل معها الشاعر، عن التجاور ونقد فكرة القيمة فى حد ذاتها وإعادة تعريف الجمال ، بانهيار المشروع الماركسى داخل دولته الأم فى الاتحاد السوفيتى ، ورغبة بعض مثقفى الماركسية فى ذاك الحين فى صبغ العالم برؤيتهم ، التى انكفئت على الذات وتحدثت عن التشظى والتشيؤ ، مع الأخذ فى الاعتبار أن هناك أصواتا ماركسية عالمية عارضت هذا التوجه ، ويوضح الكاتب أيضا الدور الغربى متمثلا فى أمريكا فى تذكية أفكار ما بعد الحداثة لما لها من أثر وقدرة على إضعاف الشعوب وتفكيك مشاريعها القومية ..، رابطا كل هذا بفكرة رئيسية وهى توافق أطروحات الشاعر الملتبسة والمشوهة مع أطروحات وأفكار ما بعد الحداثة ، التى جعلته من خير المعبرين عنها والمستخدمين لآلياتها شكلا ومضمونا . وفى الفصل الخامس والأخير يقف الكتاب على تحليل منظومة القيم فى ديوان " مدينة الحوت " ، حيث يبرز المؤلف تركيز الشاعر يتسحاق لاءور على صورة العرب كضحايا ، وليسوا كأصحاب حق ، فهو لم يقدم العرب فى صورة مقاتلين من أجل الحرية فى سبيل تحرير وطنهم ، بل تعمد طرح فكرة المساواة بين الضحية العربى والجانى الصهيونى ؛ عند تناوله لفكرة إراقة الدماء ، فهو لا يريد التأسيس لفكرة الحق ، لا يريد أن يبحث فى أصول الصراع ، هو ينظر له فقط نظرة تدعى الإنسانية ، دون أن يحدثنا عن موقفه من نشأة الصراع واحتلال أرض فلسطين ! كما نجد أن الشاعر يحاول دائما تصوير وجوده ودوره فى فلسطين داخل المشروع الصهيونى ودولته " إسرائيل " ، على انه جزء من النضال الماركسى العالمى ضد الرأسمالية والإمبريالية ، فى حين انه فى طيات طرحه الفكرى يقبل بالإمبريالية والاستعمار التوسعى إذا كان على الطبعة والديباجة الماركسية الصهيونية ، فأصل مشروع اليسار الماركسى الصهيونى ، هو احتلال فلسطين على أساس من التعايش المشترك بين العرب و اليهود ، على أن يكون هناك هدف مرحلى لتيار الصهيوينة الماركسية وهو إقامة دولة إسرائيل ، ثم بعد ذلك وكهدف تالى توحيد نضال الطبقة العاملة العربية واليهودية سعيا لبناء الأممية الشيوعية العالمية !! أى أنه يقبل بفكرة الاحتلال طالما هو احتلال لطيف ، احتلال تقدمى ماركسى صهيونى من وجهة نظره ! وهكذا نجد موقف الشاعر من التراث والموروث اليهودى الذى ربطه بفكرة الصهيونية العنصرية فقط، فنجده فى حالة ثورة على فكرة الإله القومى الخاص باليهود ، ونجده فى حالة عداء للغة العبرية التى يربطها فى تصوره بالصهيونية العنصرية ( غير التقدمية ) ، كما ينظر للأرض ( مصدر الصراع ) بنوع من التعالى والسخرية ، ولكن هنا – وفى نقطة مهمة - لم يكن الشاعر يقدم البديل ، لم يكن يطرح تصورا مغايرا لفكرة الصراع على الأرض ..؛ سوى فكرة الاحتلال التقدمى أيضا الذى يتعامل مع الأرض بوصفها أداة للإنتاج لا بوصفها مسرحا لأحداث تاريخية وتراثية ! ومن اهم ما التقطه الباحث أيضا وأشار إليه فى دراسته، هو فكرة لحظات اعتراف الشاعر بالهزيمة وشعوره بالضياع وغياب البوصلة مع عدم قدرته على التحقق وإيجاد طرح بديل لوجوده المأزوم على أرض فلسطين ، والتفت الباحث أيضا لنظرة الشاعر للمرأة التى غالبا ما درات فى فكرة المرأة / الجسد فى مقابل تراجع فكرة الحب . و مما تناوله الكتاب أيضا هو فكرة أدب الوصية الموجه للإبن عند الشاعر ، حيث استحوذت على الشاعر فكرة النصيحة والتوجيه والخوف على المستقبل متمثلا ذلك فى صورة ابنه ، وكأنه فى حالة يأس من قدرته على الانتصار ، فحاول ان يمرر أفكاره ومشروعه المثقل بالمتناقضات والهموم لابنه . وكانت خاتمة الدراسة مهمة جدا ، حيث كشفت عن فكرة رئيسية هى المرجع فى تحليل هذا الفكر الصهيونى الماركسى المزعوم ، وهى فكرة حلول المنهج الجزئى المبتسر مكان المنهج الكلى الشامل فى تناول حقائق الصراع العربى الصهيونى ، المنهج الجزئى الذى يعتمد على الانتقائية واختيار بعض الوقائع والأحداث ، وإهمال البعض الآخر ، لبناء صورة غير حقيقية ومنتقاة للصراع العربى الصهيونى ؛ تبرر وجود تيار " الصهيونية الماركسية " المزعوم .