قلب محافظ الإقليم قلب رقيق ، ومشاعره جياشة ، وأحاسيسه مرهفة للغاية ، فما كاد الرجل يسمع بوفاة طفلة نتيجة خطأ تخديرها أثناء محاولة إجراء ( ختن ) لها ، حتى تألم الرجل غاية الألم ، ولعله لم ينم ، حتى إذا أصبح الصباح دقت طبول موكبه ، واستنفر حاشيته ، وجمع رجاله ، وحشد كاميرات قناته التليفزيونية الملاكي ، وهرع بهذا الجحفل اللجب ، يطوي القفار، ويخوض البحار ، ويصل الليل بالنهار ، حتى وصل إلى تلك الأسرة المنكوبة في طفلتها فأدى واجب العزاء ، وأظهر من الحزن ما يزري بحزن الخنساء ، ثم مال على بعض العيادات فأغلقها ، وصرح لإعلامييه المرافقين من حملة كاميرا قناته الخاصة وموظفي المحافظة الذين يراسلون الصحف أنه سيكون بالمرصاد لكل من (يحاول .. يفكر.. يهوب... بقرب ) من ختن الإناث أو تخديرهن من أجل الختن !! وعاد الرجل إلى عرينه مظفرا ، وقام إعلاميو الموكب بالواجب فأشاعوا الخبر ، وأذاعوا الصور ، وتحدَّثوا عن دموع سحَّتْ ، وأصوات بحَّتْ ، ومهمةِ صحَّت ، ورجالٍ ضحت براحتها ووقتها ( الثمين !!) من أجل مواساة الأسرة المنكوبة بطفلة ماتت تخديرا .من أجل الختان ( الوحش = بكسر الواو والحاء !! ) في اليوم التالي لهذا الحادث الجلل عقدنا جلسة طارئة على مقهى (السعادة ) المجاور لعجلاتي ( الصبرطيب ) غربي محطة سكة الحديد لنبدي إعجابنا بهذا المحافظ الجسور ، وتلك الوجوه اللامعة المضيئة التي كانت حوله من رجال السياسة الشرفاء المناضلين الذين لا يهنأ لهم بال ولا يرقأ لهم جفن ، وطفلة تختن في أقصى نجع من نجوع الوادي العامر بهم وبإنجازاتهم. كنا – على القهوة !! – سعداء غاية السعادة ، مسرورين غاية السرور ، منبهرين أشد الانبهار بتلك الرحلة الميمونة إلى تلك القرية الآمنة ومواساة تلك الأسرة البائسة التي باتت ليلتها بلا عشاء ، ربما فرحا بالزيارة ، والأغلب لأنها لم تجد عشاء . وفجأة قطع علينا الأخ موهوب سحابة فرحتنا الغامرة ، ويبدو أنه ( تقل العيار ) فألقى بالشيشة جانبا ووقف بهامته الفارعة وجسمه الفرعوني المتراكم طولا وعرضا ، صارخا فينا في عنترية ألفناها منه حين يؤديها بنشوة حشاش "عقر " : " يا جماعة كفاية كده ... ختان إيه وتخدير إيه ؟ الراجل لم يذهب إلا بعد ما سمع بحكاية الوقوف دقيقة حدادا على تلك الطفلة ، ومواعيد تغيير المحافظين قد أزفت ، فكان لا بد له هو أيضا من ( وقفة ) ليس لدقيقة حداد كما فعل غيره ، لكن بالزيارة وهذا ما يرفع قدره ، وينشر ذكره ،ويضع عنه – عند سادته – وزره ، فيكون من الباقين " قال له بطيخ ساخطا ، : - هكذا أنت دائما يا موهوب ... !! كان انفعال موهوب قد وصل ذروته ، وتوالت " تجلياته " كالحمم فوق رأس بطيخ المدافع التاريخي عن الحكومة وحزبها في مجلسنا الموقر : - يعني يا بطيخ أفندي ينفع السيد اللواء المستشار الدكتور الوزير المحافظ يعزي ناس وناس لأ؟ حتى العزاء والدقيقة الحداد فيها ماعز وضاني ؟ - كيف هذا يا هذا؟ - على بعد خمسين مترا ذات اليمين من منزل الطفلة التي زارها المحافظ تقبع ثلاث أرامل يرعين أحد عشر طفلا مات آباؤهم الثلاثة حرقا في قطار الصعيد منذ أربع سنوات ، ولم يجدوا لهم جثثا ، ولم يعرفوا لهم قبرا ، ولم تستخرج لهم حتى الآن شهادات وفاة ، ولم يقف عليهم أحد لا حدادا ولا ودادا . وعلى بعد مائتي متر ذات الشمال من منزل الطفلة يعيش شيخ عجوز فان مشلول فقد ابنيه في عبارة السلام 98 تاركين أرملتين وستة أطفال تحولوا إلى ضحايا للتوربيني ، هؤلاء جميعا لم يزر بيوتهم لا محافظٌ ولا منفلت ، ولا تهتم بهم وسائل الإعلام مطلقا لأنهم من تلك الفئة المهمشة التي لا تقلق أحدا . - ولكن هناك حل لمشكلتهم لكي يزورهم المسؤولون ويقفوا عليهم حدادا؟ - وما ذاك ؟ - أن يختنوا ذلك الشيخ الفاني الأشلّ ، أو يعيدوا ختن أولئك الأرامل عسى أن يهتم بهم الإعلام !! ما أن تفوه بطيخ بتلك الفكرة العبقرية ، حتى رقصت عينا موهوب رقصة مؤتمر قمة عربي ، وهوى على صدغ بطيخ بقلم تاريخي له طعم الضريبة العقارية ، قلم مفجع انتقض منه وضوء عبد المجيد ، فصدرت عنه أصوات منكرة أشد النكر. !! ** جامعة اسيوط صعيد مصر