إعادة زيارة تاريخ مصر والمصريين د. طه عبدالعليم علي نقيض نيران صديقة تستهدف مصر, وطنا وأمة, عن جهل أو نقص, وصلت الي قناعة بأن المصري لو لم يكن مصريا لود- إن عرف قدرها- أن يكون مصريا' جديرا بمصر'! وأما الجدارة بمصر فتكون بأن لا يقبل المصريون لها بأقل من موقع الريادة في ركب التقدم العالمي! يحفزهم انتماؤهم لوطن وأمة أعطيا وعلما أكثر مما أخذا وتعلما, منذ انفردا بكونهما فجر الحضارة والضمير للإنسانية جمعاء! ولنتذكر: أن المصريين, الذين لم يرثوا حضارة عن غيره, كانت لهم إرادة لا تلين مكنتهم من السبق في صنع عجائب التقدم وروائع الخلق وقت أن كانت أوروبا لا تزال تعيش همجية ما قبل التاريخ! والأمر أن المصريون قد بادروا بصنع حضارة وتاريخ العالم بأسره منذ أسسوا أول دولة قومية في التاريخ كما لم تفعل أمة من الأمم! وطوال آلاف السنين, منذ عصر بناة الأهرام وحتي عصر بناة الإمبراطورية, لم يعرف المصريون اليأس قط ولم يرتضوا بأقل من قيادة مسيرة التقدم, بانتاجية عملهم ورقي خلقهم! وهكذا, فقد بدت مصر وكأنها لن تقوم لها قائمة, بعد أن خاض المصريون أول ثورة اجتماعية في التاريخ, حين أهدر فراعنتهم العدل كما وصف أدب الحكمة والغضب في العهد الإقطاعي ومنه رائعة' الفلاح الفصيح',فكان أن تقوضت وتمزقت الدولة القديمة! لكن كفاح المصريين استمر ولم يهدأ بالهم وحكماؤهم وقادتهم حتي أشرقت شمس العدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية مجددا وعاد رقي مصر وازدهارها سيرته الأولي في الدولة الوسطي! ثم بدت مصر ثانية وكأنه لن تقوم لها قائمة, حين تعرضت لأول مرة في تاريخها للغزو والإحتلال الأجنبي, فخاض المصريون أول حركة تحرر وطني ظافرة في التاريخ, بدءا من طيبة المحررة وأول عاصمة مليونية في التاريخ, حتي دحرت مصر غزاتها بقيادة أحمس الأول وقامت الدولة الحديثة, ليؤسس تحتمس الثالث, اول بطل عالمي في التاريخ, أول إمبراطورية دفاعية في التاريخ! استنادا لقدرة اقتصادية وتقنية غير مسبوقة ولجيش وأسطول وطنيين لا عهد للعالم بهما, فسادت قرونا بذهب مصر وسيفها, ونشرت نور الضمير في محيطها! حتي أخفقت دولة العسكر وأقام كهنة طيبة أول دولة دينية في التاريخ! وقد أسجل هنا- ما فصله حسين فوزي في سندباد مصري, وعززه جمال حمدان في شخصية مصر- أن أمة في العالم لم تتمتع بالاستقلال كما تمتع به المصريون نحو ثلاثة أرباع تاريخهم الألفي المديد! فبعد حملات الردع الظافرة ضد' الأقواس التسعة' أعداء الدولة القديمة, ودحر' الهكسوس الرعاة' غزاة الدولة الوسطي, وكفاح المصريين المجيد بقيادة رمسيس الثالث برا وبحرا ضد غزو شعوب البحر حتي دحرت, ومعركة إخراج المتسللين العبرانيين من مصر! حتي كانت صحوة حضارة مصر الصاوية المتأخرة ونضالها ضد غزاة العالم الجدد من الآشوريين ثم الفرس, بعد تحررها من حكم أسر الجوار المصري, حكم الأسرة' الليبية' المتمصرة, حين غفل حكام مصر فاعتمدوا علي المرتزقة وسرحوا الجيش الوطني خوفا علي سلطتهم! ثم حكم الأسرة' الكوشية' حين أغواها كهنة آمون بفتح مصر إنتصارا لعقيدتهم القديمة!! وسيقول قائل, مالنا وهذا التاريخ البعيد, وقد تحولت مصر من بعده الي مستعمرة, فأذكر: أن مصر- باستثناء فترتي الاستعمار الروماني ثم العثماني- كانت في العصور الوسطي مركزا لامبراطوريات أسهمت بقسط وافر في صنع تاريخ العالم وتطوره الحضاري, ولنعد الي المراجع الثقات لنعرف مآثرها ولندخل علي الإنترنت ونصور خرائطها! وأما أن مصر آنذاك كانت تحت حكم أسر أجنبية, فأقول إن الإسكندر الأكبر قد فتحها بجيشه متعدد الجنسية ضمن امبراطوريته الممتدة من الهند حتي اليونان, في زمن دانت فيه الأمم لمثل هؤلاء المحاربين في كل مكان, كما بين صبحي وحيدة في أصول المسألة المصرية لكنه في مصر فقط كان عليه أن يعلن نفسه ابن آمون بعد أن طلب مباركة كهنة معبده في سيوة, وكان علي خلفائه البطالمة إعلان أنفسهم فراعنة يشاركون شعبها المتدين ذات العبادات! ولكن نتذكر أن الاسكندرية كانت عاصمة المتوسط ومنارته الحضارية دون منازع ووراءها مصر المزدهرة في الفيوم وغيرها خلال العهد الهيليني, ثم غدت بكنسيتها القبطية الرائدة عاصمة المسيحية المبكرة ودرع عقيدتها النقية ومركز رهبنتها التليدة وقاعدة مناهضة الاستعمار الروماني! وفي العهدين المذكورين لم تنقطع هبات المصريين ضد القهر الأجنبي! وأما فتح عمرو بن العاص لمصر, فقد كان بداية انقطاع فقدت معه هويتها الوطنية بعد أن ذابت في هوية اسلامية عالمية شملت مسلمي العالم من جنوب آسيا الي غرب أوروبا, فصار حكام مصر ولاة' خلافة اسلامية' أو' حكاما مسلمين' استقلوا بها, فكان الحكم الأموي والعباسي ثم الطولوني والإخشيدي والفاطمي والأيوبي والمملوكي والعثماني, حين قبل المصريون يحكامهم غير المصريين لمجرد كونهم مسلمين! حتي أن المصريين, الذين خاضوا ثورتين ضد حملة الفرنسيين' الكفرة', لم يجد زعماؤهم غضاضة في تنصيب محمد علي' المسلم' واليا علي مصر! الي أن عاد الوعي مجددا بالهوية الوطنية المصرية وتجلي مع الثورة العرابية! ولكن لنتذكر أيضا أن القاهرة فور أن تأسست صارت منارة الإسلام بجامعها الأزهر وكانت مع غيرها من مدن مصر الصناعية والتجارية مركز التقدم الاقتصادي والصناعي في المتوسط في العهد الفاطمي, ومركز تجارة الشرق في العهد المملوكي المبكر. واستنادا الي قدرة مصر دون سواها هزم صلاح الدين وبيبرس وقطز الغزاة الصليبيين والتتار في العهدين الأيوبي والملوكي فصدتهم عن بلاد العرب وديار المسلمين. لكنه بدءا من الانتفاضة ضد وطأة الخراج والجزية في خلافة وحتي الهبات ضد المماليك لم يستكن المصريون للمظالم! ثم من كان يتخيل أن تقوم لمصر والمصريون قائمة وقد وصل حالهم الي درك أسفل لم يعرفاه قط عشية العصر الحديث! ولنقرأ وصف الجبرتي خراب القاهرة واحتضار الاسكندرية واضمحلال غيرهما من المدن بعد تحول تجارة الشرق وتداعي الصناعات والحرف, وطغيان الصحراء والبراري علي الوادي والدلتا نتيجة إهمال العناية بأعمال الري, وتقلص المصريين بسبب الجوع والظلم الي ربع عددهم في العصرين الهيليني والروماني.. إلخ! ورغم هذا, كانت نهضة مصر الجبارة في عهد محمد علي, فعرفت نظام الري الدائم ودخلت عصر التصنيع الحديث سابقة معظم أوروبا وجميع آسيا, واستصلح المصريون البراري وضاعفوا الأرض المزروعة فتضاعف عددهم! وكادت مصر- لولا التدخل الاستعماري- تصبح عاصمة دولة عربية موحدة حلم بها العظيم ابراهيم باشا قائد جيش فلاحيها المظفر! ومجددا لا يتصور أحد أن تقوم لمصر قائمة بعد وأد محاولة تصنيعها بفرض' الانفتاح الاقتصادي' عليها في عالم' متمتع بالحماية'! فاذا بها تضاعف صادرات قطنها وتعاود محاولة التصنيع وتؤسس أول برلمان وتعرف مدارس البنات وتبني القاهرةالجديدة وتبعث الاسكندرية المحتضرة وتفتتح قناة السويس وتقيم دار الأوبرا...إلخ في عهد الخديوي اسماعيل. وبعد اصطياد الأخير بفخ الديون وإجباره علي التنازل عن الحكم لإبنه توفيق, الذي تواطأ مع الاحتلال البريطاني لمصر لسحق الثورة العرابية, لم يكن ليتصور أحد أن ستقوم قائمة لمصر! فاذا بها تفجر ثورة1919 العظيمة وتجمع بين كفاحها من أجل الجلاء والدستور وطموحها للتصنيع الوطني, فتنتزع استقلالها ودستورها وتصنيعها رغم كل النواقص! وأخيرا, فان أحدا لم يكن ليتصور أن تقوم لمصر قائمة بعد عدوان1967 التي استهدفت وأد انجازات ثورة يوليو! فاذا بالمصريين يرفضون الهزيمة, وينتصرون بقواتهم المسلحة فيحررون سيناء بعبورهم العظيم قبل أي شيء! وأخيرا, لمن لا يثق في قدرات مصر الكامنة, فيزعم أنها مشلولة عاجزة عن خوض ماراثون التقدم! أقول إن إعادة زيارة تاريخ مصر لا تكشف فقط أسباب صعودها وأفولها! وإنما تبين أن مكانتها رهن بأن يثبت المصريون جدارتهم بها! وحينئذ لن يقبلوا بأقل من المنافسة علي الريادة العالمية! وللحديث بقية عن سبل تحقيق هذه الريادة في مجال الإقتصاد, بدءا من زيارة اقتصاد السوق الكوري! عن صحيفة الاهرام المصرية 16/12/2007