د. عبدالمنعم إبراهيم الجميعي الزائر لمدينة القاهرة في السنوات الأخيرة يلاحظ تزايد أعداد المقاهي بشكل كبير لا تخطئه عين وقد تعددت أشكال وأنشطة تلك المقاهي وحملت بعضها اسما أجنبيا مثل "كوفي شوب" أو مسميات أخري تبرز طبيعتها ونشاطها الذي قد يكون مقتصرا علي تقديم المشروبات الساخنة والباردة أو أنواعاً متباينة من الطعام. إلا أن السمة الأساسية هي تقديم "الشيشة" أو النرجيلة وأصبحنا لا نندهش عندما نري الفتيات أيضا يدخن الشيشة مثلهن مثل الرجال. ودون التطرق لأبعاد كثيرة كانت وراء انتشار مثل هذه المقاهي.. إلا أنه من المنطلق التاريخي نرصد جانبا معيناً وهو اختلاف طبيعة تلك المقاهي عن الماضي خاصة في القرن الماضي حيث كانت ملتقي لرجالات الفكر والأدب والفن ورجال الحركة الوطنية وكمركز لحركة الكفاح الوطني.. إلا أن هذا الوهج قد اختفي بكل مباهجه ولم يعد منها ما قد يجمع أهل الأدب والفن سوي القليل. وفي هذا المقال يطيب لي أن استعرض بعض المقاهي التي لعبت دورا في تاريخنا الوطني والسياسي وساهمت في تشكيل وجدان الكثيرين من زعمائنا ومفكرينا ورجال الفن والأدب والصحافة. من المقاهي التي كان لها دور سياسي في الحركة الوطنية قهوة البوستة التي تقع في ميدان العتبة الخضراء بالقرب من هيئة البريد والذي تغير اسمها بعد ذلك وأصبحت تعرف بقهوة "متاتيا" إذ كان يؤمها لفيف كبير من أقطاب الفكر والسياسة. فقد ارتبط هذا المقهي بنشاط جمال الدين الأفغاني في مصر ذلك النشاط الذي يعد فصلا هاما من فصول الفكر السياسي في تاريخ مصر الحديث. فكان الأفغاني يحمل بين جنباته أفكارا لتحريك الشعور الوطني والنهوض بالإسلام والمسلمين والوقوف في وجه الاستعمار والمستعمرين. يطيب له الجلوس فيه عصر كل يوم إلي ما بعد المغرب حيث كان يلتف حوله طلابه ومريدوه علي هيئة نصف دائرة يناقشونه في أدق المسائل وأعقد الأمور. ويتعلمون منه أهمية الاصلاح الاجتماعي. وأهمية الخطابة والصحافة في ترقية الأمم حتي أصبحوا فيما بعد من أعلام النهضة المصرية. ومن هؤلاء الصحفيين الشاميين أديب اسحق وسليم النقاش. والشاعر محمود سامي البارودي الذي لعب دوراً رئيسياً في الثورة العرابية. والشيخ محمد عبده ذلك الأزهري المستنير الذي حاول التوفيق بين السلفية والتحديث. وعبدالله النديم خطيب الثورة العرابية والرجل الثاني بعد أحمد عرابي. وسعد زغلول الذي قاد ثورة 1919. وأصبح أول رئيس وزارة ينتخبه الشعب. ويعقوب صنوع رائد المسرح العملاق والصحفي الذي أطلق قلمه دون التقيد بقانون أو رقيب. وخلال الجلسات في هذا المقهي لم ينقطع الأفغاني عن شرب الشيشة وتوزيع السعوط "النشوق" بيمناه. والثورة بيسراه حيث سخر حديثه في خدمة مطالب الشعب المصري. والدفاع عن حقوقه وقضاياه فكانت كلماته تغلي لها الدماء "انكم معاشر المصريين قد نشأتم علي الاستعباد. وتربيتم علي الاستبداد.. هبوا من غفلتكم.. عيشوا كباقي الأمم أحراراً أو موتوا مأجورين شهداء!". ولم يتوقف النشاط السياسي في تلك الفترة علي مقهي "متاتيا" بل كان هناك مقهي "يلدز" القريب من حديقة الأزبكية والذي كان يتوافد عليه طلائع المفكرين الأحرار من مصر والعالم العربي ومنهم عبدالرحمن الكواكبي الذي فر من الاضطهاد العثماني في بلاد الشام إلي مصر. وعاش في القاهرة معززا يكتب علي صفحات جريدة "المؤيد" حلقات كتابه "طبائع الاستبداد" كما كان يتوافد علي هذا المقهي محمد كرد علي. ومحمد رشيد رضا. وفي هذا المقهي التف حول الكواكبي مجموعة من رجالات حركة "تركيا الفتاة" الذين كانوا يتطلعون إلي اليوم الذي تخلص فيه أوطانهم من ربقة الذل والهوان. وقد سرت فيهم أفكار الكواكبي. وباتت كلماته عن الاستبداد بمثابة المشاعل التي تهديهم إلي طريق الخلاص مما دفع السلطان عبدالحميد إلي التخلص منه. وما يروي أنه بعد أن ارتشف فنجانا من القهوة في هذا المقهي أحس بألم في أحشائه. وظل يقيء حتي فارق الحياة وبالنسبة لقهوة بار اللواء التي كانت تقع أمام بناية جريدة الأهرام القديمة بشارع مظلوم في قلب القاهرة فقد كانت منتدي لأهل الفكر والأدب والصحافة. وعلي الرغم من أن صورة الزعيم الوطني مصطفي كامل كانت تتصدر هذه القهوة الكبيرة فقد ارتادها العديد من رجالات السياسة من كافة الأحزاب لاسيما حزب الأحرار الدستوريين. كما كان يجلس عليها محررو الكشكول والسياسة الأسبوعية. يضاف إلي ذلك أن انطون الجميل رئيس تحرير الأهرام كان يترك مكتبه في الجريدة ليتخذ من إحدي مناضد هذه القهوة مكتبا له حتي يجمع من حوله الأدباء والشعراء. وإلي جانب ذلك فقد كان حافظ إبراهيم يلتقي في هذا المقهي بالصحفيين أمثال داود بركات وتوفيق فرغلي حيث يتمتع بمجالسه الظريف محمد البابلي. ويحظي بطعامه الدسم. وشرابه المعتق الذي كان يأمر به فور حضوره. ثم تدور الأحاديث الجدية والساخرة. وطرائف النوادر بينهم. والجدير بالذكر ان العائلة الأباظية كان لها ركن ركين في هذه القهوة وكان من أشهرهم فؤاد باشا أباظة. وفكري أباظة. وإبراهيم الدسوقي أباظة. وكان من رواد هذا المقهي أيضا الدكتور محمد حسين هيكل والدكتور محمود عزمي الصحفي الشهير. وإلي جانب ذلك فلا يمكن ان نغفل في معرض الحديث عن ثورة 1919 دور مقهي جروبي القديم حيث كان يجتمع فيه بعض رجالات الحركة الوطنية. كما كانت تذاع منه أخبار الثورة. وتوزع المنشورات وتدبر الخطط مما ضايق الانجليز وأدي إلي قيام جنودهم باقتحامه في العاشر من مايو 1919 والاعتداء علي رواده. ولم يتوقف الأمر علي هذا المقهي. بل كان لمقهي الحلمية دور مميز خلال الثورة. حيث انطلقت منه خططها مما جعل الانجليز يضيقون به ذرعا فاعتدوا علي رواده أكثر من مرة. كما قاموا بتفتيشهم بحجة ضبط المنشورات الثورية. يضاف إلي ذلك ان قهوة أحمد عبده التي ذكرها نجيب محفوظ في روايته بين القصرين كانت تعج بالثوريين الذين امتلأت قلوبهم بالغضب من الانجليز وتصرفاتهم خاصة بعد نفيهم لسعد زغلول إلي مالطة. أما عن بار الأنجلو فقد ضم كبار الساسة والكتاب علي اختلاف انتماءاتهم الحزبية. ونزعاتهم السياسية فكان يجلس فيه محمد حسين هيكل الدستوري. وحافظ عوض الوفدي. وفكري أباظة نصير الحزب الوطني وغيرهم من السياسيين. كما كان الدكتور علي إبراهيم والشيخ عبدالعزيز البشري يقصدانه خلال بعض الأمسيات حيث يمتد بهم السهر إلي ما بعد منتصف الليل. وبعد ان امتد النشاط الشيوعي في مصر خلال الحرب العالمية الثانية كانت أغلب جلسات زعماء هذه الحركة المفضلة علي رصيف قهوة "ايزافتش" لقد كان هذا المقهي يحتل موقعا متفردا وسط ميدان التحرير ويملكه مهاجر يوغسلافي من البوسنة. واستطاع ان يجعل من هذا المقهي أشهر مقهي في مصر قبيل الخمسينيات من القرن الماضي. هذا عن المقاهي ودورها كملتقي لرجالات الحركة الوطنية. وكمركز لحركة الكفاح الوطني. ان هذا الوهج قد اختفي بكل مباهجه ولم يعد من مقاهي الأدب والفن سوي القليل. فمتي يعود هذا الزمن الجميل؟! عن صحيفة الجمهورية المصرية 2/9/2007