تنسيقية شباب الأحزاب تعلن عن استراتيجيتها الجديدة لعام 2024 / 2025    بحضور وزير الأوقاف.. نقل شعائر صلاة الجمعة من مجمع الشهداء بالإسماعيلية    القومى للطفولة يولي مهام رئاسة المجلس لعدد من الفتيات في يومهن العالمي    سعر الدولار يرتفع أمام الجنيه في 10 بنوك خلال أسبوع    قرار جديد من التموين بشأن إعادة الهيكلة والإصلاح المؤسسي    ارتفاع أسعار الفول وزيت الذرة وانخفاض العدس اليوم الجمعة بالأسواق    وزير الإسكان يتابع الموقف التنفيذى للمشروعات الخدمية والترفيهية بالعلمين الجديدة    «الإسكان» تطرح 53 مسطحا تجاريا للبيع في مدينة 6 أكتوبر.. طرق سداد جدية الحجز    تحقيق| «العدوان الثالث».. نوثق شهادات الموت والتشبث بأطراف الحياة من شمال غزة    نجا من غارة إسرائيلية استهدفته في قلب بيروت.. من هو وفيق صفا؟    افروف: الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية سيكون استفزازا خطيرا    ارتفاع حصيلة قتلى الهجوم الروسي على أوديسا الأوكرانية إلى ثمانية    لتوطيد العلاقات مع إفريقيا.. وزير الأوقاف السابق يوجه التحية للرئيس السيسي    مواعيد مباريات الجمعة 11 أكتوبر والقنوات الناقلة - منتخب مصر وألمانيا وهولندا.. ودوري السيدات    منتخب العراق استثناء وصدمة للسعودية.. الخطر يحاصر عرب آسيا في تصفيات المونديال    انهيار جزئي في عقار بكورنيش الإسكندرية.. وتدخل عاجل من الحى    سقوط تشكيل عصابي تخصص في سرقة سيارات النقل بالأقصر    الإدارات التموينية تشن حملات مكبرة على المخابز والأسواق بالإسكندرية    الصحة: اغلاق عيادة يديرها أجانب مخالفة لاشتراطات التراخيص بمدينة نصر    ضحية لقمة العيش.. مصرع سائق لودر سقطت عليه الصخور أثناء عمله بقنا    انطلاق حفل افتتاح مهرجان الموسيقى العربية.. الليلة    اليوم.. عمرو دياب يحتفل بعيد ميلاده ال 63    أسماء جلال ترقص وتغني في حفل زفاف مريم الخشت (صور)    الثور والحمل الأبرز.. 3 أبراج الأكثر حظاً اليوم    الحكومة تخطط وتنفذ.. رسائل مدبولي: كافة ربوع مصر ومراكزها ينالها التطوير والتنمية    إيمي طلعت زكريا تكشف عن مرض والدها: "بابا مات وصحي"    فضل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة: نور وطمأنينة للمؤمنين    سورة الكهف مكتوبة كاملة في يوم الجمعة    خير بداية يدق أبواب المحافظات.. صحة دمياط تعلن إجراء 28 عملية جراحية للقضاء على قوائم الانتظار    انطلاق الجولة الثانية من تطعيمات شلل الأطفال في غزة الاثنين المقبل    " الإجهاد البصري أسبابه وأعراضه وعلاجه".. على مائدة متحف الطفل غدا السبت    الأرجنتين تسقط في فخ التعادل أمام فنزويلا بتصفيات المونديال    إصابة شخصين في حادث انقلاب سيارة جنوب الشيخ زويد    تركي آل شيخ يستعد لتحضير مفاجأة لعمرو دياب في عيد ميلاده    مشادة كلامية.. حبس فتاة قتلت صديقتها طعنا داخل كمباوند شهير في أكتوبر    ترامب يتعهد بإلغاء الضريبة المزدوجة على الأمريكيين المقيمين بالخارج حال الفوز    خطبة الجمعة اليوم.. تتحدث عن السماحة في البيع والشراء والمعاملات    بعد ترشيح «أونروا» ل«نوبل للسلام».. الاحتلال يصادر مقرها في القدس    سعر الدرهم الإماراتي اليوم الجمعة 11-10-2024 في البنوك.. كم يسجل الآن؟    البابا تواضروس يستقبل سفير مصر الجديد في هولندا    التأمين الصحى ببنى سويف تنظم برنامجا تدريبيا عن الأسس العلمية لإدارة المكاتب    لغرس القيم الدينية والأخلاقية.. الأوقاف تعقد «لقاء الجمعة للأطفال» في 27 مسجدًا اليوم    الأحد.. "القومي لحقوق الإنسان" يعقد الملتقى ال17 لمنظمات المجتمع المدني    موعد مباراة هولندا والمجر والقنوات الناقلة في دوري الأمم الأوروبية    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 11- 10- 2024 والقنوات الناقلة    أسعار الأسماك اليوم الجمعة 11 أكتوبر في سوق العبور للجملة    أخبار مصر: استقالة غامضة لرئيس شركة السكر، عدد السودانيين المغادرين مصر يوميا، توقع بموجة غلاء جديدة، خطة بايدن ونتنياهو لضرب إيران    قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم مدينتي يطا وقلقيلية بالضفة الغربية المحتلة    تعرف على سعر الريال السعودي اليوم في البنوك    دعاء يوم الجمعة مكتوب.. اغتنم ساعة الاستجابة بأفضل الأدعية لليوم المبارك وما ورد عن الرسول    اختللاط أنساب.. سعاد صالح تحذر المواطنين من أمر خطير يحدث بالقرى    اليوم.. الأوقاف تفتتح 16 مسجدًا بالمحافظات    أوقاف شمال سيناء تنظم ندوات ضمن المبادرة الرئاسية «بداية جديدة لبناء الإنسان»    إيمان العاصي تكشف رد فعل ماجد الكدواني بعد مشاهدة حلقات «برغم القانون» (فيديو)    «راجع نفسك».. رسائل نارية من رضا عبد العال ل حسام حسن    هشام حنفي: مباراة موريتانيا في متناول منتخب مصر وتصريحات حسام حسن تثير الجدل    هؤلاء معرضون للحبس والعزل.. تحذير عاجل من نقيب المأذونين    محمد صلاح: يجب التركيز على مواجهة موريتانيا.. وتصريحات حسام حسن غير مناسبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خير أجناد الأرض
نشر في محيط يوم 22 - 02 - 2014

تكبر يا روح أمك وأشوفك طول بعرض بالبدلة الميرى تضرب سلام مربع للعلم، لطابور منضبط كراكون سلاح.. و.. فضلت أكبّر وطُموحى يكبر يأخذنى فوق لعنان السماء ألمس نجومها بيدى وخدى ينام على أكتاف القمر.. والتاج..
تاجى إنت يا ابنى وأملى وقوتى وحيلى وسمعى وبصرى وبابى وشباكى وشمسى وقمرى.. واستحلفكم بالعزيز القوى بذمتكم، وأنا راضية ذمتكم، عمركم بالعمر شفتم ما بين الخلق كِلاتهم طلعة منوّرة كمثل طلّة المحروس ابنى قائم مقام المرحوم والده فى البيت والحى وعلى رأس المائدة وصوان العزاء وإمامة الصلاة والوكالة عن شقيقته تحت منديل مأذون عقد القران.. زهرة عمرى توجست خيفة عليه من زلاّت الشباب، وأصدقاء السوء، ومن كل بنت قالعة برقع الحياء تندب فى عينها رصاصة توقعه فى حبائلها، وهو يا عين أمه عوده أخضر، ومن براءته وقلة خبرته بحكم سنوات عزلته الصارمة داخل الأسوار الشرطية ممكن ينطلى عليه زيف الغزل.. من أجل المبادرة لحماية مسيرته خطبت له بنت الأصول ومشيت وراء زفة الطبول والسيوف قلبى يزغرد باكتمال فرحته لمشاهدة المحروس داخل الكوشة.. وأقرأ له فى الفجر ياسين وفى ختام السلام مع كل صلاة آية الكرسى والمعوذتين ودعاء أن يحفظه لى المولى من كل سوء.. ويسكن بعيد عنى لكنه أبداً قريب منى.. يأتينى بأول حفيد فى اللفة.. ويأتينى بصحبة زوجته المتضخمة وفى ركابهما الولد والبنت.. وأدور حولهم أحصنهم بالرقى ومن شر كل حاسد إذا حسد...
وتدهمنى الليلة الليلاء فشرايين قلب الأم آذان استشعار. الليلة التى لا يغمض لى فيها جفن ولا يستقر فكر ولا يستريح جنب ولا يهدأ غليان الدم فى العروق.. ليلة الاستنفار والاستغفار والاستعاذة بالحى القيوم.. ليلة يعربد فيها الشيطان.. ليلة فيها من الأرق ما يصدّع الجبال ويريق الأنهار ويحرق الأشجار ويجدب الأرض ويصحِّر الملكوت ويسجن النهار.. ليلة يجف فيها الحلق ويتشقق أديم العين وتتهدل الرئات وتُصلب اللهاة وتلْطم الأرحام وتُطحن الأسنان.. ليلة يُبعث فيها الموتى يواسون فيمن سيصحبهم فى القريب العاجل إلى المجهول.. أصرخ بملء الجزَع بين طيّات الكابوس: «اللهم اجعله خير.. اللهم كذّب حدْسى وظنى، واخرس هاجسى، واشرح صدرى، واحفظ ابنى.. اللهم اجعله خير.. اللهم قنى وإيّاه عذاب الفراق، واجعل يومى قبل يومه».. ويفتح ابنى بمفتاحه مع خيوط الصباح كعادته ويدب صوت حذائه الواثق تجاه غرفة نومى وينحنى يقبِّل جبينى ويدى ويطلب منى الدعاء فى طريقه لأداء واجبه فى محاربة الشياطين، مع وعد بالمرور لرؤيتى ثانية، بل والعشاء معى فى طريق عودته لبيته.. معقولة تتعشى معايا يا هنايا يا ضنايا!!.. أنا نفسى فى شوربة العدس بتاعتك ونامى يا أمى لغاية ما آجى.. بالسلامة يا حبّة عينى.... و..تبرد الشوربة وأسخنها من جديد.. وجديد.. وجديد.. ولا أجسر تعجله فمعرفتى بنوعية عمله منذ بدايته تُلزمنى فقط بالانتظار لحين ما يأمر القدر.. محظور أتابعه منذ أن كان ملازماً أول لأنه دائما فى مهمة عمل.. لكن مهمات هذه الأيام مع إرهاب اللى ما يتسموا قد غدت ملمات فى سكة اللى يروح مايرجعشى.. و.. ينخل هاجسى منى الخلايا والحنايا والعظام واللهم اجعله خير.. وأفتح التليفزيون وأُغلقه توجساً قبل أن تدب فيه الحرارة والشرارة.. كرهت نشرات الأخبار وجثث الضحايا ورؤية الدماء وألسنة النار والجنازات ودموع الأبرياء.. يارب.. ويدوى الرنين فى صالة البيت وحجرات القلب وأبراج المخ.. ليس ابنى من يعتذر لى.. الاعتذار بصوت آخر قادم من رتبة أعلى.. يقدم لى عزاء بأن الشهداء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين هم أحياء عند ربهم يُرزقون..
حبيب أمه انضم شهيداً لمئات من رجال أمن معه يتساقطون اليوم كأوراق الشجر بطول خريطة الوادى بالقاهرة وبنها والإسكندرية والشرقية والشيخ زويد وكرداسة والدقهلية وأسيوط وجنوب وشمال سيناء.. رجال أمن فى عمر الزهور تركوا منازلهم وأولادهم وزوجاتهم وأمهاتهم فى خيوط الصباح دون أن يوقن أى منهم فيما إذا كانت هناك رجعة، فمهمة الحفاظ على أمن مصر الآن أصبحت مهمة لمشروع شهيد قد تحوله فى لحظة.. مع ضغطة زرار موبايل ملغوم.. مع وقع قذيفة مولوتوف فى زجاجة بدائية تحفها المسامير.. مع طعنة غادرة بالسلاح الأبيض.. مع مذبحة يتبعها السحل.. مع عملية ذبح رقبة يعلو معها التكبير لا إله إلا الله بعد أن أطلق إخوان الإرهاب النفير.. تحوله من جسد حى يفور بالدماء والآمال إلى جسد مثخن بالجراح يعبر قدسية موته مشرط الطبيب الشرعى لمعرفة نوع السلاح وعدد الطلقات.. ليستلقى بعدها جسده الطاهر بين نعوش الجثامين الشهداء الآخرين فى صحن جامع ليصلى عليه السادة المسئولين المحروسون ووالده المكلوم.. و..تصعد الأرملة الذاهلة وأبناؤه اليتامى لتسلم شهادة التكريم ونوط الشجاعة ووسام الوطنية.. ويبقى الثأر مارداً لا ينام.. وتذهب أذرع منظمات حقوق الإنسان ليس لإدانة الأيدى الآثمة التى تغتال بمخطط إرهابى يومياً رجال أمن الوطن وإنما للتأكد والتيقن من حُسن سير وسلوك رجال الأمن داخل السجون والمعتقلات تجاه بعض المساجين المدانين بالتخابر والإرهاب بالذات، وتذهب تلك الأذرع اللاإنسانية المتكاتفة توجهاً لإزكاء هوجة الشكايات والانتقادات والتويتات على ألسنة وأقلام أصحاب الاتجاهات والتوجهات، فتموج الأجواء بالنباح والعواء والاعتراضات لتُسمع أسيادها فى الخارج أن الزنازين ضيقة، ومرسى بدون مصروف للكانتين، وكلامه مع محاميه العوا سمعته الآذان، والبلتاجى محروم من الفسحة، ودرجات السلم مرتفعة على المرشد، وزجاج القفص يحول دون السمع.. وعصام سلطان رجل القانون محامى مجدى راسخ، وسعد وديع، وابن صاحب مصنع التلاجات الشهير الذى اعتدى على ضابط مرور استوقفه بسيارته البورش مسجلا مخالفته، وعندما أبلغ الضابط النيابة تم الاعتداء عليه هو وأسرته داخل شقته، وفرّ ابن التلاجات للخارج عصام سلطان الموضوع على قوائم الفتونة لمجرد سباب المحكمة الموقرة، ولخروجه عن شعوره من شدة الجور والظلم والضغوط، مما جعل قبضته الحديدية تفرط خارج إرادتها فى ضرب اللواء سعيد حسن المنوط به مهمة حراسته.. و..يعنى إيه أن يظل القيد فى يد المتهمة دهب أم حرية بعد الولادة!!».. ونسى الجميع أن تلك اليد كانت تحمل قبلها بيوم واحد فى مظاهرة إرهاب آلة حادة للقتل، وأنها ما أن أفرج عنها النائب العام لظروف الولادة الإنسانية رفعت يدها اللى عايزة قطعها بعلامة رابعة، وإخواتها الحرائر ضبطن يصنعن قنابل المولوتوف، وغيرهن قمن فى الأزهر بهتك عرض عميدتهن، وأختهن الحرائرية ذبحت من قبل بدم بارد سائقا على أسفلت الطريق بالمنصورة لاعتراضه مسيرة إخوانية.. و..
"وأبدًا لن يدرك قاتل ابنى المغيّب بأفكار الجماعة الإرهابية من قتل.. ليس فى مقدور كلمات اللغات وأجرومياتها أن تجتمع يوماً لتصف تلك المحرقة التى اندلعت فى قلب كل أم فقدت ابنها.. أم البطل.. لن يستوعب أحد مفهوم أن تثكل الأم فى ابنها.. لا تمصمصوا الشفاه وتلقون بكلمات الرثاء المطاطة الجوفاء المهترئة من أن مهمة رجال الشرطة فى النهاية الحفاظ على الأمن!.. وأين أمنى أنا أمه بدونه.. وأمن زوجته فى غيابه.. وأمن الصغار اليتامى بعد موته.. وأمن جنين لم يزل يجلس داخل الرحم فى وضع القرفصاء.. وأمن وطن كل مجند فيه يقع مجندلا فى دمائه يهز من دعائم صرحه.. يا أهل مصر الأتقياء بالله عليكم أين تضعون منزلة ابنى الشهيد الذى التزم بواجبه.. الغيور على مهنته.. الموجود فى صف ضباط وجنود يفدونكم بأروحهم... أنا الثكلى أم الضابط الشهيد، وهناك غيرى المئات من أمهات الجنود الشهداء فى المظاهرات والمسيرات والكمائن والأقسام وتحت الكبارى وفى الدائرى وخلف السواتر وحول القناة وأمام بوابات البنوك.. بالله عليكم ماذا نقدم للوطن أغلى من الأبناء خير أجناد الأرض أشقاءكم وأبناء عمومتكم وأصدقاءكم وجيرانكم كى تأخذوا تضحياتهم المقدسة بامتنان أكبر.. وأمر موتهم بجدية أكبر.. بحزن أكبر.. بدموع أكثر.. بمشاركة أبلغ وأكبر كى ينام شهيد الوطن قرير العين لأنه حىّ فى ضمائركم!
الشناوى بك
كل شىء كان عنده كثيرا بالزيادة.. البدانة والفن والصحاب والجود والعشق والشعر والحضور والظرف والسهر والحزن والضحك والولاعات والكرافتات والإحباط والدمع.. وقليله كان النوم والمال والكتب.. مصطفى كامل سيد سيد أحمد الشناوى ابن قرية نوسا البحر مركز أجا بمحافظة الدقهلية رمز الأناقة أزهريا بالجبة والقفطان والعمامة، وبالبدلة أفنديا مطربشا.. كامل الشناوى أسطورة الشعر والصحافة الذى تجنبت فى بداياتى الصحفية المرور أمام مكتبه فى الدور الثانى بأخبار اليوم مؤثرة الدوران حول الكرة الأرضية عن طريق الأسانسير الرئيسى والمكتبة والأرشيف وأقسام التصوير مرورا بمكتب الفنان صاروخان حتى لا تقودنى الخطى أمام حجرة مكتبه فأقع فيما لا تحمد عقباه من قذائف تشنيعاته الموجهة التى تظل لاصقة مدى الدهر بمن تقع فوق رأسه، أو من نكتة منه تغدو قولا مأثورا ينتشر موجات على كل لسان كأنها أغنية من أغانى أم كلثوم وعبدالوهاب.. هذا رغم أن الذى لم يعرفه عن قرب قد فاته الكثير من الحب والأدب.. رغم أنه هو الذى حمل أبناء جيل كامل من الموهوبين إلى مدار فى السماء حول كوكب الصحافة فلا زهق ولا ملَّ ولا امتن على أحد.. رغم أنه كان بهجة الليالى وخرافة السنين وآخر الظرفاء فى مصر.. رغم أننى أحب كلامه فى الحب الذى توّجه بقوله: «يا حبيبتى حسبى من الوصل أنى بالأمانى ألقاك حينا فحينا»... آثرت الدوران بعيدا ملاذا من شهرته المدوية من أنه متقلب يحب ثم يكره ثم يحب من جديد، ويصنع التمثال ثم يحطمه ويقف على أطلاله يئن ويذرف الدموع، ثم يجمع الأنقاض يبنى بها ناطحة سحاب من العذاب الذى يؤججه بالاجترار ليشعل شموع إلهامه فيمضى فى قصيدته يتعذب ويكذب ويغار ويتحول من محب لكاره ومن النقيض للنقيض.. أحببته من بعيد لبعيد فقد سمعت أنه يدغدغ أصحابه بالسكاكين، وإذا تكلم جرح حتى ولو قام بعدها بدور المداوي، وكان موجعا حتى ولو كان إثر الوجع مواسيا، وكان أصدقاؤه المقربون ضحايا مقالبه الحراقة... تناءيت عنه لاعتقاده أن الناس أربعة: عالم يعرف أنه عالم وهذا حكيم فاتبعوه، وعالم يجهل أنه عالم وهذا نائم فأيقظوه، وجاهل يعرف أنه جاهل فاضربوه وعلموه، وجاهل يجهل أنه جاهل فهذا حمار فاركبوه.. وكان كامل الشناوى مستعدا لركوب كل حمار وكل غبى وكل ثقيل دم وكل أحمق، ويجد متعة لا حد لها فى هذا الركوب، وكان أعداؤه يكرهونه على طول الخط وأصدقاؤه يحبونه على طول الخط لأنه كان إذا أحب يحب بلا قيد ولا شرط، وإذا كره فعلى المكروه السلام.. لقد كان مثل قائد الجيش فى ساحات المعارك إذا قاد الهجوم دمر الهدف تماما ودك مفاصله وجميع حصونه وسواتره، وإذا انسحب مضى يجر ذيول اللامبالاة لا يلوى على شيء، وعلاقته بالأشخاص أن يكون الشخص إما فوق فى الأعالى أو فى الدرك الأسفل، فهو يعشق لامعى الذكاء يتحاور معهم، وأيضا مظلمى الغباء ليركبهم، وكم امتطى كامل من الأبرياء غير الأغبياء، لكن نظرته الخاصة كانت تدين البعض لصالحه.!
المرهف الرومانسى الذى غنى أشعاره عبدالوهاب وفريد ونجاة وحليم.. الذى تنازل للحبيبة عن قلبه عن طيب خاطر: «إنها تحتل قلبى وتتصرف فيه كما لو كان بيتها تكنسه وتمسحه وتعيد ترتيب الأثاث وتقابل فيه كل الناس، وتهرب من شخص واحد، هذا الشخص هو صاحب البيت.. صاحب الشعر الرقيق الذى يضج بالهوى والجوى والخيانة، وبطل سيرة الحياة العجيبة التى تقلب فى دروبها بين عوالم الصحافة وكواليس السياسة، وبدد معظم أيامها فى تذوق مباهج الليل وارتشاف رحيق العشق العذرى والهروب الدائب من مطاردات الأجل والوحدة والموت، وسار وحده شريدا محطم الخطوات تهزه أنفاسه وتخيفه اللفتات، الذى مزق بعضه بعضا، والذى كان عندما يكلم حبيبته بالتليفون يسمعها بروحه ويصافحها بخياله ويراها بأذنه.. من نَهَر قلبه قائلا له: احتشم يا قلبى فالحب طيش وشباب، وأنت طيش فقط. الذى مشى باكيا ضمن خمسة فقط من المشيعين فى جنازة المنفلوطى فقد تدافعت الجماهير بعيدا إلى مستشفى الروضة بعد سماعهم خبر اصابة سعد زغلول بالرصاص عام1934.
كل تلك الشفافية والشجن ورجع الصدى والحب والود والغفران لم تمنع كامل الشناوى منذ طفولته وصباه من المضى فى ممارسة مكره ومقالبه الحراقة التى لم يسلم منها حتى المعتز بالله الشناوى الأخ غير الشقيق الذى ما أن تخرج محاميا حتى أعدت له الأسرة لافتة ضخمة كتب فوقها المحامى أمام المحكمة الشرعية فتسلل صاحبنا ليلا إليها ليزيل كلمة أمام ويكتب بدلا منها وراء وظلت اللافتة أياما قبل انتباه المعتز لما جرى فيها، فذهب يشكو كامل أخاه إلى الوالد الصارم والقاضى الشرعي، لكنه نجا من العقاب عندما فسر تصرفه بأن محل إقامتهم كان بالفعل خلف المحكمة الشرعية وليس أمامها، وزعم أن هذا هو المعنى الذى يقصده.. وبعدما استقر الأب فى القاهرة نائبا لرئيس المحكمة الشرعية العليا واختار لسكن أسرته مسكنا من طابقين بالسيدة زينب فى جنينة ياميش مخصصا غرفة فى الطابق الأسفل لابنه الأكبر كامل للتفرغ للدراسة الثانوية فى الأزهر الشريف، وكان للحجرة باب يفضى إلى الشارع تأتى منه شلة الصحاب ومن بينهم محمود المليجى وزكى طليمات والدكتور زكى سويدان وعلى إبراهيم وأحمد حسين وفتحى رضوان.. الخ.. ويوما دخل والده الغرفة فوجده يلعب الورق مع أصدقائه، وجن جنون القاضى الشرعى الوقور، وبأعلى صوته وسخطه صاح: بتلعبوا قمار.. وفى بيتي؟!! وارتج كامل للمفاجأة لكنه سارع قائلا: أبدا يا بابا.. احنا بنلعب بوكر! وخفت صوت الوالد ليعاوده الحنان السابق: اوعى يا ابنى يكون قمار.. وقال كامل: والله العظيم بوكر يا بابا..! ويعود كامل مع الفجر فى ليالى السهر إلى المنزل فيشعر الأب بوقع أقدامه على السلم وكان نومه خفيفا فيخرج من غرفته ليجد كامل أمامه الذى على الفور كان يتحول من صعود السلم إلى هبوطه، فيسأله: على فين يا كامل؟! فتأتى الإجابة حاضرة: نازل يا بابا أصلى الفجر حاضر فى مقام السيدة، فيقبله قائلا مبسملا: ربنا يفتح عليك يابني!..
ويتساءلون عن موقف كامل الشناوى السياسى فيجيب الكاتب الكبير أنيس منصور الذى يعد مرجعا فى كامل الشناوى حيث يقول: إن الشناوى اختار أن يكون عاشقا للسياسة وعاشقا للقضايا الإنسانية وأنه لم يكن له لون سياسى وإنما هو صديق للساسة، لهذا كان الثناء ينهال عليه من جميع الاتجاهات يقرظه أهل اليمين وأهل اليسار، الذين معه والذين ضده، الجميع يتعامل معه كقيمة عظيمة فوق كل الاتجاهات والميول والأحزاب، والسر أنه معجون بالمصرية المتسمة بالتسامح والمكر وسعة الصدر والحيلة المتمرسة على التعامل مع الطغاة والبغاة والغزاة والجبابرة بمنطق اللى ييجى عليّ ما يكسبشى دون أن يفقد توازنه أو يفرط فى إيمانه بما يؤمن»..
الشناوى الذى كان مكتبه على الدوام منتدى لمشاهير رجال السياسة والأحزاب من وقع عليه الاختيار عام1951 ضمن20 صحفيا للإنعام عليهم بالرتب والألقاب، فأنعم عليه الملك فاروق بلقب (بك).. ويومها ذهب إلى مقهى الأنجلو ليهتف بصوت عال وسع يا فندى أنت وهو لسعادة البيه.. البك الصحفى الذى كان بداية مشواره فى مهنة البحث عن الهلاك والمرض والهموم فى جريدة كوكب الشرق عام1930، وبعدها اختاره الدكتور طه حسين للعمل معه فى جريدة الوادى ثم محررا فى الأهرام عام1935 ويصبح رئيسا لتحرير الأخبار بعد صدورها عام1952، وفى تلك المراحل كتب بأسلوبه اللاذع أشهر المقالات التى هزت المجتمع مثل مقاله عن حادث4 فبراير، ومقال هاجم فيه معاهدة صدقى بيفن ومقال عن حرية الرأى الذى هاجم فيه حكومة الوفد وانتصر عليها، وكان فى دفاعه المجيد عن حرية الصحافة رائدا وشجاعا ضد مؤامرة الملك فاروق لتمرير تشريعات تقييد الحريات الصحفية عام1950 وتم قتل الأفاعى فى جحورها، وعندما قامت الثورة لم يعد لمثل تلك الأمجاد الصحفية مجال ولا مكان، فقد اختفت المعارضة وتحولت الصحافة إلى جوقة تعزف نغما واحدا، وشاع عن كامل الشناوى استخدام لسانه اللاذع فى ترويج النكات والشائعات عن رجال الثورة، وكان عبدالناصر يحيط نفسه بجهاز قوى للمخابرات برع فيه صلاح نصر لدرجة أنه كان يرصد النكات التى يطلقها كامل أو غيره فى كافيتريا الهيلتون، وبالطبع لم تكن النكات والقفشات تروى فى التقارير مثلما ألقيت فى السهرات، وإنما كانت تضاف إليها المبالغات وأقوال ووقائع لم تحدث فى الحقيقة، وقام أصدقاء كامل بتخويفه بعبارة «حتروح وراء الشمس» فآثر وقتها أن يركن للعزلة الليلية أسبوعا لكنه لم يطق صبرا على البعد عن الناس والمؤانسة واستلهام الجديد فى الفن والحب والحياة فعاد إلى ليالى السهر ولكن هذه المرة فى كافيتريا (نايت آند داي).. وتظل الجفوة قائمة بين الشناوى ورجال الثورة إلى أن توسط البارزون فى المجال الصحفى فى إزالة الضباب حتى صفت الأجواء، ولأن الشناوى كان أكثر من يجيد الأحاديث الصحفية استجاب له عبدالناصر وخصه وحده بأول حديث له فى الصحافة العربية والأجنبية على مدى أربع ساعات متصلة تناول فيها الحوار الاتحاد القومى والوضع السياسى والاقتصادى والاجتماعى فى مصر، ومصير المعتقلين السياسيين، وتم نشر الحديث الهام فى جريدة الجمهورية عام1956 جرنال الثورة الذى عين فيه كامل الشناوى رئيسا للتحرير، واستمر المبدع فى سلك الصحافة التى امتدت إليها سيطرة الدولة، وبقى واحدا من أبرز الأقلام، إلا أنه كان فى قرارة نفسه شاعرا بأن عصره يتوارى ويختفى ويذوى تدريجيا..
فى حياته العريضة رغم سنواتها القصيرة 57 سنة ذهبوا يتساءلون: «هل كان كامل الشناوى صحفيا؟.. هل كان أديبا؟.. هل كان شاعرا؟.. هل كان فنانا؟.. هل كان فيلسوفا؟.. هل كان مفكرا أو مؤرخا أو محدثا أو ظريفا؟».. وتأتى الإجابة من سجلات الواقع: « كامل الشناوى شاعر الليل وكان الليل ميلاده الذى لم يكن يغمض له جفن إلا عند انبلاج الفجر، فقد اعتاد أن يسامر عتمة العالم حتى أول الضوء فيأوى إلى نوم الشعراء المشبع أرقاً ويقظة.. كان كل ذلك فى ذلك كله.... هذا بينما يحلل كامل الشناوى ذاته بالأرقام من واحد إلى عشرة فيعطى نفسه فى الشجاعة6 وفى الصدق8 والخجل9، والغيرة7، والغضب2 والأناقة1، والشكل صفر والحب10 وتسأله أقدر المذيعات آمال فهمى ما الشيء الوحيد الذى جاملك فيه الزمن؟ فتأتى إجابته: سواد شعري.. فبالرغم من قوله فى قصيدته (عيد الميلاد) وعلا الشيب مفرقى إلا أنه ظل يحتفظ بسواد شعره دون صبغة حتى النهاية رغم أنه كان يغسله يوميا بالكولونيا.. وربما كان كامل الشناوى أيضا يغسل بالكولونيا جيوبه الخاوية فقد كان كريما لحد السفه لتطارده متاعبه المالية فتغدو لازمة لحياته، فهو الذى لم يمتنع يوما عن إقراض صديق أو زميل محتاج للعون، وكان يدفع لكل من يشاركونه السهر، ولا ينسى فى الليالى التى يسهر فيها وهو رئيس تحرير أن يطلب العشاء لمن معه الذى قد يصل لشراء100 سندويتش للزملاء وعمال المطبعة، وهو الذى لم يعرف يوما كيف يحدد علاقته بالمال ولا إذا ما كان يكرهه أو كان يهواه، فكلما عضه الإفلاس لجأ إلى حقن نفسه بمصل السلف حتى كان الصحفى الوحيد الذى مات مديونا للجمهورية وأخبار اليوم بسبب القروض، حتى إنه كان يقبض راتب6 شهور مقدما، وبينما كان غيره يحصلون على المال ويحددون إقامته فى عمارة أو أرض أو سهم أو سند أو رصيد كان ابن الشناوى ما يكاد يلقى قبضته عليه حتى يطلق سراحه ليركض لا يسأله إلى أين ولا متى سيعود؟... رجل بهذا الحجم الضخم الذى يعد منطقة الإشعاع الكاملة لم يترك لنا سوى القليل من الكتب الصغيرة النحيلة التى لا تشبع من جوع كلما استبد بنا الشوق والحنين إليه، وكان فى أمر الكتب من رأيه: هل هذا الذى أقوله يستحق أن أجمعه فى كتاب، إن الكتاب مسئولية لا يقوى على تحملها إلا قادر عليها أو جاهل بها، وأنا لا أقوى عليها، ولا أجهلها...
وبقيت تعبيراته نصطادها من الهواء.. مثلما قال عند لقاء النجمة الحسناء: إزيهم كلهم؟ فردت عليه: مين همه يا كامل بيه؟.. فقال: شعرك.. عينيك.. شفايفك.. صوابعك.. وقال إن الصيدليات ستقفل أبوابها لأن أغانى شادية علاجا لكل الأمراض، وأن سلوى حجازى المذيعة بلغ من رقتها أنها كانت قبل أن تفتح درج مكتبها تستأذنه: تسمح لى أفتحك.
ولم تزل كلماته الهادرة تهيب بنا تنشد الحرية فى لحن لعبدالوهاب ظل محبوسا فى أدراج الإذاعة حتى قيام الثورة: «أرضك الحرة غطاها الهوان وطغى الظلم عليها وعليك.. و.. كنت فى صمتك مرغم كنت فى حبك مكره، فتكلم، وتألم، وتعلم كيف تكره...!!»
إضراب الأطباء
سيب سماعة الكشف يا ولد يا ميدو
- هو انت يا دادى مش فى الإضراب
على فين بيها؟!
- عند عم محمد البواب
ماله يا ابنى؟
- مات..
نقلا عن صحيفة " الاهرام" المصرية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.