كاتب وروائي سعودي في العقد الرابع من عمره, تمرس بالعمل الصحفي في كبري المؤسسات, بما منحه خبرة بالحياة خارج وطنه, وقدرة علي رؤية وفهم ونقد ما يحدث داخله. لكنه آثر في مطلع نضجه الفكري أن يتفرع للكتابة الابداعية حتي يتحرر جذريا من ضغوط الرقابة الذاتية والمهنية, ويتمكن من اطلاق العنان لجسارته في اعادة تخيل الواقع الذي يعرفه وتمثيله فنيا. ولعل مهنة الصحافة أن تكون الحاضنة الحقيقية الضرورية لتعرية اعصاب المجتمع بأشعتها تحت الحمراء, فهي التي تتجمع لديها بؤرة الوقائع واسرار الحياة, وهي التي تتعرض في دولنا السلطوية لأعلي درجة من توتر الكتمان وتمزق النسيج التقليدي المحافظ, ومنها تنطلق عادة موجات التغيير التدريجي للأبنية الثقافية والمجتمعية. ويبدو أن هاني النقشبندي سيلعب في تاريخ الرواية السعودية دورا مماثلا لما قام به احسان عبد القدوس في مصر, فأقصي ما استطاع الروائيون قبله هناك ان يعبروا عن حريتهم الشخصية خارج الحدود, وأقصي ما استطاعت الكاتبات فعله علي ضجيجهن وما أثرنه من زوابع أن يتمتمن بطرف من هذيان الكتب والقمع المفروض عليهن. أما أن يعتصر الكاتب فورة الثورة علي التقاليد الكابحة, ويجسد المسكوت عنه في ضمير النساء والرجال فهذا ما لم يجرؤ أحد علي اقترافه بهذه الصراحة. وإذا كان احسان عبدالقدوس عند منتصف القرن الماضي قد سبقه عصر كامل من النهضة والتحرر في السياسة والثقافة وحركة المجتمع جعل صنيعه ينخرط في المد الثوري الذي أسهم في تشكيله علي الأصعدة المختلفة, فإن هذا الشاب السعودي الجريء قد سبقته تجربة الأدب العربي برمتها تعززها موجات العولمة الكاسحة, ومعطيات التقدم الرقمي التي نسفت حوائط البيوت وأسرار المدن واللغات والثقافات, وأصبح بوسع أي شاب أو فتاة أن يخترق جدار الصمت ويبوح بالمسكوت عنه لرفيق افتراضي يقاسمه الشجن الحميم, لكن يظل ما يسرقه هاني النقشبندي في رواية اختلاس من نار الحقيقة عن المجتمع الخليجي والخبايا فيه أفدح من أن تغفره السوابق العربية والعولمية, مما يؤذن بمرحلة جديدة من التطور الحضاري الشامل. تقاطع الرسائل والمصائر يعتمد الكاتب علي منظور مزدوج لا يلبث ان يتقاطع في سرده, فهو يقدم سارة التي تنتمي إلي عائلة سعودية محافظة تزوجت مبكرا, ولها توأمان, وبشرتها تميل إلي السمرة قليلا, وقوامها يعاند الجاذبية وعيناها كبيرتان شديدتا البياض والسواد, مع شعر هو الليل الطويل ينسدل متموجا حتي أسفل ظهرها. جمال يستحق أن تقوم ثورة من أجله, لكنه أضعف من ثورة صاحبته الثائرة علي نفسها, وأقل درجة من مجموعة ثورات متلاحقة اعتادت التعايش معها منتصرة حينا أو مستسلمة في معظم الأحيان. ثورتها الأخيرة كانت علي غطاء وجهها, لم تكن تلك أخطر الثورات لكنها الأكثر تكرارا, إذ لا تكاد تنتهي من المواجهة مع أهلها حتي تبدأ مع زوجها, ولم تكن الصديقات في منأي عن ذلك. سارة لا تريد أن يحولها الغطاء إلي جثة في كفن أسود, لا تريد أن تسير ميتة وهي علي قيد الحياة. ثم لا تلبث الرواية أن تنتقل برشاقة إلي طرف آخر يتقاطع مع هذه السيدة المتمردة, وهو هشام رئيس تحرير كبري المجلات النسائية العربية التي تصدر في لندن فتلعب علي وتر البعد المكاني الظاهر مع التبعية الأيديولوجية الخفية, فالمادة التي ينشرها تخضع لرقابة باترة, وقصاري الحرية التي يمارسها تتجسد في اختيار صورة امرأة بارعة الأنوثة والفتنة علي الأغلفة, أما المقالات والتحقيقات فلابد ان تكون محايدة غير جارحة. وقد استفزت هذه السياسة سارة. فكتبت إليه تقول تعقيبا علي تحقيق هزيل: ولعل قمة ما جسدتموه من تزييف كان تحقيقكم الذي أشرتم إليه عن الخيانة الزوجية في أحد المجتمعات الخليجية وما ذكرتموه من أنه جريء ويقدم حقائق وأرقاما تكشف للمرة الأولي, أين هي الحقيقة فيما نشرتم؟ وما هي المعلومات الجديدة.. خفتم من الاعتراف بالخطأ وأنكرتم وجود الخطيئة في مجتمعنا المحافظ.. حسنا اذهبوا إلي المحاكم واسألوا المراكز الاجتماعية, اسألوا أهل الاختصاص العارفين بالأسرار بدلا من الكذب علي القراء العجيب أن هذه اللهجة الجريئة لم تلفت نظر رئيس التحرير في ذاتها, فكل ما شغله إثرها هو تخيل سارة نفسها ومدي جمالها, وقابليتها نتيجة لتجربتها المريرة للدخول في علاقة معه, يظل هو الرجل في انحصار تفكيره بالمرأة كهدف شبقي دون أن يقوي علي التجرد الموضوعي, وهذا اعتراف شجاع من المؤلف الذي يتماهي مع بطله. إن صاحبنا لم يستطع في البداية أن ينشر رسائل سارة التي إنهمرت عليه كالمطر تعري المجتمع, وتكشف غواياته ونفاقه, غير أنه عندما قرر في نوبة شجاعة انتحارية أن ينشر بعض هذه الرسائل كانت النتيجة الحتمية التي بادر باتخاذها قبل أن يجبر عليها هي أن يجمع أوراقه ويترك طائعا عمله يسحقه احساس باللا جدوي, قبل أن يلتقي للمرة الأخيرة فتاته الإسبانية ويسمع منها الكلمة القاضية تقولون إن الغرب ضدكم وضد ثقافتكم, أنتم في الواقع ضد أنفسكم, أنتم بلا هوية, أنت بلا هوية يا هشام أنت النموذج الذي كنت أبحث عنه في دراستي فمن لا يملك هوية لا يملك ثقافة هذه هي المقولة المحورية التي تعززها الأحداث والرسائل والتأملات في هذا العمل الدرامي الشائق المقطر. ** منشور بجريدة "الأهرام" المصرية 10-9-2007