لم يكن التاريخ مادتي الأثيرة في المدرسة، ولم أفهم يوماً هوس أساتذتنا به: (التاريخ هو المستقبل يا أولادي، التاريخ هو المستقبل)، كان يكرّر أحد هؤلاء على مسامعنا نحن التلامذة يومياً لم أستطع أن أستوعب، أنا المتوثّبة منذ الصغر نحو الحاضر والغد؛ الملولة ممّا انتهى؛ البادئة من جديد في كل لحظة "حتى أسطورة سيزيف لا تزعجني: المتعة في الدحرجة لا في رأس الجبل"؛ أنا الممتعضة خصوصاً من كل ما يتطلّب قدرة على الحفظ الببغائي (كوني ابتُليتُ بذاكرةٍ لا تلتقط سوى ما يعجبها ويعنيها)؛ لم أستطع، أقول، أن أستوعب إصرار المؤرخين على الالتفات الى ما مضى، وشغفهم بمراجعته، وصبرهم لتحليله وتدوينه، وإجبارهم إيانا تالياً على حفظ تفاصيله، لكني ما أن كبرتُ ونضجتُ (قليلاً)، وتبحّرتُ (قليلاً أيضاً) في شئون سياستنا الدنيا وشجونها، حتى فهمتُ ما كان يعنيه أستاذ التاريخ الحكيم ذاك، المتأثر من دون شك بفلسفة لافوازييه ("لا شيء يُفقَد، لا شيء يولد، كلّ شيء يتحوّل"). لم يكن التاريخ، إذاً، مادتي الأثيرة في المدرسة، ولا أعرف هل تغيّرت مناهج مادة التاريخ في المدارس اليوم، لكني أعلم أن هناك فصلاً لا يمكن أن أنساه ما حييت، وإذا كنتُ لا أنساه، فليس لأنه يتناول منعطفاً أساسياً في تاريخ العالم، ولا لأنه غيّر معالم المنطقة العربية، ولا حتى لأنه يتناول شخصيات بطولية تتحدّر عائلتي منها. إذا كنتُ لا أنساه، وإذا كان نُقِش نقشاً في حجر ذاكرتي، فلأنه لقّنني الدرس الأول من سلسلة دروسٍ واظبتُ عليها في تخصّص الريبة من الجماعات والتجمعات والجمعيات والجموع، وما شابه ذلك. إنه، تحديداً، الفصل المتعلق بوعد بلفور، وبالتظاهرات التي نُظِّمت ضده في فلسطين، حيث راح الناس يهتفون في الصفوف الورائية "فليسقط واحد من فوق" بدلاً من عبارة "فليسقط وعد بلفور" الصحيحة. أنظر حولي في لبنان اليوم، فلا أسمع سوى أتباع ومناصرين يبعثون الذعر في نفسي، إذ يهتفون على العمياني: "فليسقط واحد من فوق!"، من دون أن يعرفوا ما الذي يطالبون به. ذلك أن الجماعة ليس دورها أن تفكّر قبل أن تقول، ليس دورها أن تسائل بينما تقول، ليس دورها أن تراجع بعدما قالت. دورها، على العموم، وللأسف - ليتها لا تفعل - أن تردّد ما يُطلَب منها ترديده فحسب: لكلٍّ مهمّته في هرم التبعية المقدّس، فحذار أن يحاول أحد قلب موازين الطاعة. فليسقط واحد من فوق؟ يا ليته، هذا الذي فوق - أو على الأصحّ هذا الذي يظنّ نفسه فوق - يسقط ويريّحنا! • قرّر جهاز الرقابة في الأمن العام اللبناني منع عرض مسرحية "لكم تمنت نانسي لو أن كل ما حدث لم يكن سوى كذبة نيسان" لربيع مروة - التي كتبها مع فادي توفيق - على الأراضي اللبنانية. الحجّة؟ أن المسرحيّة قد "تثير النعرات الفئوية وتذكّر بأجواء الحرب الأهلية"! ياه! كم نشعر بالأمن والأمان والاطمئنان، نحن مواطني هذا البلد السعيد، لأننا في حمى جهازٍ أمني للرقابة، يسهر على وحدتنا الوطنية، ويحمينا من شرّ النعرات والانقسامات والإنشقاقات. ياه! كم نشعر بالدفء والثقة وراحة البال، نحن مواطني هذا البلد العظيم، لأننا في حمى جهازٍ يحرس جَهلنا، ويستميت (من وراء خيال إصبعه) لإبقائنا في فردوس العماء والتعامي والإنكار والهرب الى الأمام. وبعد: نحن مواطني هذا البلد المضحوك علينا (بمشيئتنا)، نلفتُ هذا الBig Brother الجالس في أقبية الرقابة (هذا نفسه الذي يرى القذى في عيون فنوننا وآدابنا، ولا ينتبه الى الخشبة في خطب مسؤولينا وعيونهم وعقولهم)، الى ضرورة مشاهدته برامج الحوار على تلفزيوناتنا، ومتابعته تصريحات السياسيين في صحفنا، وإصغائه الى نشرات الأخبار في إذاعاتنا. ربما، آنذاك، يهبط عليه الوحي (الوعي) ويقرّر أن يُعمل مقصّه في ألسنة الزعماء نفسها، لأنها، تماماً على غرار مسرحية – "مؤامرة" ربيع مروة، وبحسب قول الجهاز، "تثير النعرات الفئوية وتذكّر بأجواء الحرب الأهلية"! • "نحن الموارنة مهدَّدون... نحن الروم الكاثوليك مهمَّشون... نحن الدروز منزعجون... نحن الارثوذكس محتجّون... نحن الأرمن مهانون... نحن الشيعة مظلومون... نحن السنّة قلقون... الخ". ليس هناك من طريقة مفذلكة لقولها، فلأقلها على عريها: أخجل من انتمائي الى بلدٍ يذكّرني كل يوم - إنْ أنا ترفّعتُ وارتقيتُ ونسيت – بانتمائي الديني. ** منشور بجريدة "النهار" اللبنانية 27-8-2007