«قصائد للأرض والإنسان» عنوان الديوان الشعري الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب لمؤلفه فؤاد نعيسة، هذا الشاعر الذي يصفه أحمد عكيدي بقوله: «هذا الشاعر غاب أو غيب عقوداً لا سنوات حتى ما عاد يذكره إلا أبناء جيله، جيل الستينيات. فؤاد هذا يفاجئنا وفقاً لجريدة "تشرين" منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، وهنا المفارقة بشعر مصطفى، يلوح بسيطاً وينضح عمقاً، مؤكداً أن شعر التفعيلة هو شعر الحداثة الوحيد، كما يعتقد ويعلن، فؤاد، يلوح الآن صوتاً متميزاً في ساحة الشعر العربي، محققاً مقولته المعروفة بأن لا أمير للشعراء ولا أول فالشعر أصوات، ومن ضج موهبة وتملك أدواته عروضاً ولغة هو الشاعر». الديوان من إصدارات عام 2007 ومنه نأخذ: هذا زمن القهر .. إن الإنسان لفي جوع .. إن الإنسان لفي عري .. إن الإنسان لفي ذعر! .. زمن سرطان .. يفترس البشر .. الشجر .. الحجر .. النارنج، النار....». من قصائد فؤاد نعيسة نقرأ: 1 باريس... يا باريس سألتُ بحُرْقةِ الشحّاذ، يا باريسُ عن مأوى وعن خبزٍ كفافي ليلةَ الميلادِ عن حبٍ يقيني ذلَّةَ الشكوى!.. سألتُكِ... لم تجيبيني! كَبُرْجكِ، كنتِ جامدةً كثلجكِ، كنتِ باردةً كترحالي، بلا جدوى.. أجوب العالمَ المُنْهارَ من مدنٍ إلى مُدْنٍ أُلاحِقُ، عَبْرَها، "رؤيا" بِغَيْضِ المَنِّ، والسلوى تواعدني.. أقولُ: هناك مَرْساتي هناك مرافئ النسيانِ، يا سُفُني... وَمَرَّ العامُ أسفاراً وأنتِ بخاطري دنيا مِنَ اللِّيْنِ... أشيلُ، لأجلها، همّي وأصبر، آنَ تعوي في شراييني ضواري الليلِ... أصمتْ، حينما يَحْتَزُّ قلبي حَدُّ سكين!.. ويومَ دلَفْتُ محموماً أُفلّي الضفّةَ اليُسْرى وتلك الضفةَ اليُمْنى تناهت، يومها، صَوْبي بقايا جثّةٍ تطفو على "السِّينِ"... فيطفو في حنايا الصدرِ جرح الأهل، والوطنِ ويمتدُّ اغتراب الرّوح، للبدَنِ وأصرخُ... آخٍ... مَنْ في الغُرْبةِ السوداء، يسمعني؟... ومَنْ ذا يسبرُ الأعماقَ؟ ومَنْ ذا يلمس البلوى؟.. سألتُ بحرقة الشحّاذِ يا باريسُ... لا جدوى!... باريس 1968 ليلة الميلاد لكَ ركنُكَ الجاثي على كَتِفِ الحديقةِ والعصافيرُ التي دلَّلتَها تأوي إلى وُكُناتِها نَعْسى... يؤرِّقها العراءْ. دَلَفَ المساءْ... في البال تَرْقدُ صورةُ الوطن البعيدِ: مآذنُ الأقصى... تراتيلُ القيامةِ... ضجَّةُ الجُنْد المُدَجَّجِ وارتباكاتُ النساءِ... الباعةِ، الأولاد... أنفاسُ الترقُّب، والعداءْ!. "ثلجٌ يُطِلُّ من الأفاريز العتيقةِ ليلةَ الميلاد... تسقطُ دمعة عذراءُ في صمت المغارةِ... قدْسُ، يا قدْسَ البكاءْ!..". دَلَفَ المساءْ باريس تأوي للمسرَّة والسلامِ تُرتِّبُ السَّهَرَ، الصلاةَ، الحُبَّ تَغْضي عن لهاثاتِ النهارِ وتستعيد غموضَها: "تلك الستائرُ... ذلك الضوء الشَّفيفُ... تمازُجُ الأسْمارِ، والأسرارِ بالدفء المُنَعَّمِ.. لَذعةِ الخمر النبيذيِّ اللذيذِ... يسوعُ... قدّاسُ انتصاف الليلِ... ناقوسُ الولادةِ، والفداءْ...". خَلَتِ الحديقة ظلُّكَ الشرقيُّ ينهض باهتاً وخطاكَ تقرع ضفَّةً يُسْرى، ويُمْنى أيها المتسكّع "الكُسَعيُّ" في قرِّ الشتاءْ!... هي غربةٌ أولى وأحلامٌ يكسِّرها على إسفلتِ باريسَ التوحُّدُ، والتوجّسُ، والعياءْ!... لا طيفَ يُومئُ عند قارعة الطريقِ فعُد إلى... لا... لا تعدْ نأتِ الحواضر، والبوادي عن معانيها... وينأى الأصدقاءْ!.. * * *