معالم المأزق وملامح المراجعة د. عبد المجيد سويلم كما وعدت القراء في الاسبوع الماضي، ها أنا اشرع بكتابة سلسلة من المقالات التي تتصل بالمراجعة الفلسطينية التي باتت مسألة عاجلة وملحة وراهنة اكثر من اي وقت مضى، ليس بالنسبة الى الحاضر الفلسطيني بكل ما يلفه من مظاهر الهشاشة والضعف والتشرذم فحسب، بل وبالنسبة للمستقبل ايضاً بكل ما ينطوي عليه من آمال وطموحات. ما هي باختصار وتكثيف معالم المأزق الفلسطيني الراهن؟ اغلب الظن ان المأزق الفلسطيني يتمثل اليوم في الانسداد المتزايد والمتدرج وبتسارع كبير بالوصول الى حل سياسي تفاوضي يحفظ للشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية التي عبر عنها برنامج الاجماع الوطني، برنامج منظمة التحرير الفلسطينية، وهي حقوق الاستقلال الوطني الناجز واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الاراضي التي احتلتها اسرائيل في العام 7691 بما فيها القدسالشرقية والاعتراف بحق العودة كما نص عليها قرار الجمعية العامة رقم 491. ويعود هذا الانسداد المتزايد لرفض اسرائيل رفضاً تاماً وقاطعاً للانسحاب من هذه الاراضي وإصرارها على استقطاع جزء كبير من هذه الارض، وابقاء الجزء الذي يقطنه الفلسطينيون بأعداد كثيفة مجزءاً ومقطعاً وخاضعاً للسيادة والسيطرة والتحكم الاسرائيلي والرفض المطلق لحق العودة والاعتراف بالمسؤولية التاريخية والاخلاقية والسياسية عما حل بالشعب الفلسطيني من تهجير قبل ستين عاماً من هذه الايام. كما يتمثل المأزق الفلسطيني في "الحقائق" التي خلقتها اسرائيل في الاراضي الفلسطينية المحتلة، وخصوصاً المستوطنات التي حولت هذه الارض الى منعزلات سكانية، وكذلك الجدار والحواجز ومصادرة اجزاء ومناطق واسعة من الضفة الغربية من اللطرون وحتى الغور الفلسطيني، بحيث اصبح يصعب يوماً بعد يوم الحديث عن اية امكانية لقيام دولة فلسطينية "قابلة للحياة" في ظل كل هذه الوقائع وفي ظل ترسيخ هذه "الحقائق". ويتمثل المأزق الفلسطيني ايضاً في مدى الشوط الذي قطعته اسرائيل في حصار الأحياء العربية في القدسالشرقية، وفي تهويد مناطق واسعة من شرق المدينة المقدسة، وفي محاولات محمومة ومبرمجة لحصار أهلها وفرض الجنسية الاسرائيلية عليهم وفي تحويل حياتهم في تلك الأحياء الى نوع من الجحيم اذا ما أبدوا اية مظاهر لمقاومة هذا الحصار وهذا التهويد. ويتمثل المأزق الفلسطيني اليوم في تبني الولاياتالمتحدة الاطروحات الاسرائيلية للتسوية. وقد جاءت ورقة الضمانات الاميركية التي قدمتها الادارة الاميركية الحالية لشارون في حينه لكي تقطع الشك باليقين ولكي تجعل من التسوية الراهنة للصراع العربي - الاسرائيلي وللصراع الاسرائيلي - الفلسطيني مجرد محطة لتصفية القضية الفلسطينية والحقوق الفلسطينية ولكي تضمن لإسرائيل الدور المهيمن في عموم منطقة الاقليم. المأزق هنا لم يتحول الى قدر، ولكن الفكاك من كل هذه "الحقائق" اصبح صعباً وخصوصاً ان أوراق الضغط الفلسطينية هي اوراق هزيلة بعد أن تم الارتهان الى استراتيجية التفاوض باعتبارها الطريق الوحيد او الأوحد او حتى الرئيسي للوصول الى الحقوق الفلسطينية. وأما حامل المشروع الوطني (أداته الحزبية والسياسية) فقد تراجع بشكل غير مسبوق بدءاً من حركة فتح التي قادت مسيرة العمل الوطني على مدى زمني زاد على اربعين عاماً، ومروراً بالفصائل اليسارية والديمقراطية وانتهاء بمنظمات المجتمع المدني التي عزلت عن محيطها السياسي بل وأصبحت مطالبة بالتنكر لهذا المحيط. وأما الوجه الآخر لهذا المأزق فيتمثل اساساً في ان البديل القائم على الارض اليوم والذي تعبر عنه حركات الإسلام السياسي وفي القلب منها حركة حماس ليس معنياً (من زاوية الاولويات) بالبرنامج الوطني والاهداف الوطنية كما حددها برنامج الاجماع الوطني الفلسطيني، وحركات الإسلام السياسي ما زالت تعتبر البرنامج الوطني مجرد محطة على طريق قيام الدولة الاسلامية وليس مهماً اذا مر هذا الطريق بدولة صغيرة او كبيرة على جزء من الارض او على اي جزء آخر، وبهذا فإن المأزق الوطني كبير وخطير وقد وصلت الامور الى تزايد كبير ومتسارع في اطروحة الدولة الواحدة، اي حل السلطة واعادة قذف المناطق الفلسطينية في وجه الاحتلال وتحميله كامل المسؤولية عن الفلسطينيين تحت الاحتلال، مع ان اسرائيل تمتلك من وسائل الهروب من هذا الخيار ما هو اكبر وأكثر مما يعتقد اصحاب مقولة الدولة الواحدة ولأن اسرائيل قد تنبهت لذلك منذ امد بعيد والجدار هو احدى وسائل اسرائيل لمنع هذا الخيار. في ضوء ذلك، هناك عوامل موضوعية خارجة عن إرادتنا ساهمت في تفاقم ازمة البرنامج الوطني، وهناك عوامل ذاتية نتحمل فيها قسطاً وافراً من المسؤولية بسبب أدائنا وبنيتنا وبسبب غياب الرقابة والمحاسبة وغياب سلطة القانون وبسبب ضعف البناء الديمقراطي الراسخ. لهذا، فإن المراجعة المطلوبة باتت تتطلب الوقوف أمام حقيقة فشل المفاوضات في استرجاع الحقوق كوسيلة وحيدة وكاستراتيجية وحيدة او رئيسية في تحقيق البرنامج الوطني. ويتطلب هذا ان نعيد النظر في الاستراتيجية التفاوضية من عدة زوايا وعلى هيئة اسئلة: هل من الصحيح ان نفاوض دون ادوات ضغط كفاحية شعبية مستمرة؟ هل من الصحيح ان نتفاوض بصرف النظر عن الممارسة الاسرائيلية على الارض (استمرار الاستيطان، الحواجز، مصادرة الارض، الاغتيالات وغيرها وغيرها)؟ وهل من الصحيح ان تجري المفاوضات تحت حراب الاحتلال وتحت حواجز الاحتلال ولماذا لا يتم نقل المفاوضات الى الخارج؟ هل من الصحيح ان تضيع الفوارق بين السلطة وبين المنظمة؟ ولماذا لا تحصر المفاوضات، ولماذا لا تفصل فصلاً تاماً عن السلطة وتحصر فقط في المنظمة وفي الخارج على وجه الخصوص والتحديد؟ ثم اخيراً لماذا لا تتحول المفاوضات نفسها الى اداة كفاحية وأداة صراع بدلاً من ان تكون تحصيلاً حاصلاً بالنسبة لاسرائيل وبدلاً من أن تستغلها اسرائيل في تكريس سياسة الامر الواقع وفرضها على الارض؟ في المقال القادم سنطرح اسئلة المقاومة وما هي المقاومة المطلوبة حقاً. عن صحيفة الايام الفلسطينية 8/5/2008