الانتخابات البلدية الفرنسية القطيعة الأولى د. غسان العزي يفاجأ زائر فرنسا هذه الأيام بصورة ال"السوبر-رئيس" ساركوزي، كما يلقبونه، تحتل عددا لا يحصى من اغلفة مجلات وكتب تتنافس على سرد وتحليل جوانب حياته العاطفية والزوجية والسياسية. “مالئ الدنيا وشاغل الناس"، هكذا أضحى الرئيس الذي يتناقل الفرنسيون الأخبار والطرائف عنه وزوجتيه السابقة سيسيليا والحالية كارلا. ويبدو ان الرئيس “الكلي الحضور" يتعمد تكوين صورة لنفسه تقطع مع الرؤساء السابقين تماشيا مع وعوده خلال الحملة الانتخابية بإحداث قطيعة مع كل ما كان سائدا في الاليزيه من قبله. كان ينبغي لهذا “الانتشار الواسع" للرئيس ان ينعكس ايجابا على حزبه في الانتخابات البلدية الاسبوع الماضي لاسيما وان المعارضة اليسارية ماتزال تفتقد إلى قيادة تاريخية وبرنامج واضح. لكن يبدو ان الديمقراطية التي تعشق التغيير الدائم والتداول المستمر للسلطة ارتأت اعادة التوازن للمشهد السياسي الفرنسي فانتهت هذه الانتخابات بسيطرة اليسار على البلديات والاقاليم في مقابل هيمنة اليمين على الرئاسة والحكومة والبرلمان. عشية هذه الانتخابات كان حزب “الاتحاد من اجل حركة شعبية" الذي ينتمي اليه الرئيس متأكدا من تكرار الفوز الذي كان قد حققه في الانتخابات الرئاسية ثم التشريعية (مايو/ أيار ثم يونيو/ حزيران الماضيين)، لذلك تكلم كثيرا عن الرهانات الوطنية لهذه الانتخابات المحلية. لم يكن يعلم ان الفرنسيين بدأوا يشعرون بالاستياء من سلوك رئيسهم الذي لم يستوعب بعد انه أضحى رئيسا لقوة عظمى فأعلن أمام الصحافيين مرة: “سيسيليا هي همي الوحيد"، وشتم مواطنا رفض مصافحته خلال افتتاح معرض زراعي في باريس، وصرخ مرة أمام المايكروفون: “القدرة الشرائية.. القدرة الشرائية.. ماذا تريدون ان أفعل؟ هل أفرغ صناديق هي فارغة في الأصل من أجل تحسين القدرة الشرائية للمواطنين؟"، وهو نفسه المرشح للرئاسة الذي طالما شدد على الوعد بتحسين القدرة الشرائية كواحدة من أولويات عهده إذا فاز في الانتخابات. لم يسبق لرئيس في فرنسا ان انهارت شعبيته بهذه السرعة لتنخفض من أكثر من ستين في المائة إلى حوالي الثلاثين في المائة قبل ان يكمل سنته الأولى في الحكم. لقد جاءت نتائج الانتخابات البلدية كإنذار جدي بوجوب تغيير السياسة المتبعة، كما أعلن رئيس الوزراء الاسبق رافاران الذي كان ساركوزي وزيرا في حكومته، أو على الأقل تغيير في سلوك الرئيس وأسلوب تعاطيه مع الإعلام كما طالب قياديون في الحزب الحاكم. لقد فقد أربعة وزراء أساسيين في الحكومة الحالية مقاعدهم البلدية في بلداتهم جراء هزيمتهم في هذه الانتخابات، وبالتالي فإنهم أمسوا ضحايا التغيير الذي لابد ان يعلنه الرئيس أمام الفرنسيين.رغم ذلك حاول رئيس الوزراء فرانسوا فيون (الذي ما يزال يحتفظ بشعبية تقترب من السبعين في المائة) التخفيف من وقع الهزيمة بالقول ان هذه الانتخابات ذات طابع محلي فقط ولا ينبغي البناء عليها، لاسيما وان نسبة المشاركة فيها كانت ضئيلة (حوالي الخمسة والستين في المائة) لكنه يعلم تماما ان نسبة التغيب كانت الاكبر في صفوف الناخبين من اليمين كما دلت استطلاعات الرأي، ما يعني أن الذين سبق وصوتوا للحزب الحاكم لم يتكلفوا عناء الانتقال من بيوتهم للاقتراع له هذه المرة. لقد سيطر الحزب الاشتراكي المعارض على مدن متوسطة الحجم كانت معاقل لليمين منذ عام 1848 (مثل كاين وفالانس وميتز واميانز وناربون... إلخ) وعلى مدن كبرى (مثل تولوز) لم يحكمها سوى اليمين منذ أربعين عاما. ومن أصل عشر مدن تضم أكثر من 200 ألف نسمة سيطر اليسار على سبع، ومن أصل ست وعشرين مدينة تعد بين مائة ألف ومائتي ألف نسمة سيطر اليسار على ست عشرة ويشارك بكثافة في إدارة تسع أخرى منها.كمااحتفظ الحزب الاشتراكي ببلدية باريس وبمعظم دوائرها. اما الكانتونات فقد سيطر اليسار على ستين منها من أصل مائة، وبالنسبة لمجالس المناطق سيطر على عشرين منها من اصل اثنتين وعشرين. وكان الامين العام لحزب “التجمع من اجل حركة شعبية" الحاكم باتريك ديفيدجيان قد أعلن عشية الانتخابات عن ثقته بأن حزبه سوف يحتفظ بالبلدبات التي يحكمها ويستولي على بلديات جديدة لكن النتائج جاءت عكس هذا الطموح تماما. في المقابل اعلن امين عام الحزب الاشتراكي فرانسوا هولاند عن توقعات كانت اقل من النتائج التي يبدو انها فاجأت الفائزين قبل الخاسرين. أما حزب الوسط (مودم) الذي يتزعمه فرانسوا بايرو فيبدو انه يتجه للانقسام والذوبان في أحزاب اليمين واليسار الكبرى. لقد اخفق بايرو الذي هزم في عقر داره (مدينة بو)، في خلق حالة سياسية تشكل بديلا للانقسام التقليدي بين يمين ويسار كما وعد خلال حملته الانتخابية التي انتهت بهزيمة نكراء (واحد ونصف في المائة من الاصوات). هكذا وجه الفرنسيون إنذارا إلى رئيسهم أن عليه المبادرة إلى إجراء تغيير في السياسة وفي الاسلوب. في السياسة يصعب عليه إنجاز الكثير في عالم ينتقل فيه ثقل العولمة الاقتصادية إلى الشرق الآسيوي ويتخطى فيه سعر النفط عتبة المائة وعشرة دولارات للبرميل الواحد ويتخبط فيه الحليف الامريكي بشباك الأزمات الاقتصادية والمالية والاستراتيجية ويضعف فيه موقع فرنسا الاوروبي والدولي. أما في الأسلوب فالتغيير متاح ومجاله واسع. يكفي ان يدرك نيكولا ساركوزي انه رئيس لجمهورية بلد كبير وليس مغنيا أو ممثلا سينمائيا وبالتالي عليه التقليل من تصريحاته الخفيفة لاسيما المتعلق منها بحياته العاطفية والخاصة والتخلي عن نظارات “رايبان" السوداء وساعة اليد الثمينة التي يرتديها في معصمه وتظهر واضحة أمام عدسات المصورين... إلخ، كما ينصحه كتاب افتتاحيات صحف يطلبون منه التركيز على برنامج الإصلاحات الموعود الذي انتخبه الفرنسيون من أجله، أكثر منه على النساء والمظاهر والوقوف أمام عدسات المصورين. يمكن القول إن نتائج الانتخابات البلدية الفرنسية جاءت بمثابة القطيعة الأولى مع القطيعة التي طالما وعد بها ساركوزي الذي لا يزال يمتلك قدرا كافيا من الوقت لتدارك الأسوأ وهو لما ينه بعد السنة الأولى من حكمه. عن صحيفة الخليج الاماراتية 23/3/2008