جريمة الصمت عن مجازر الإسرائيليين ضدّ الأطفال.. د. بثينة شعبان خلال أسبوع أسمته إسرائيل "الشتاء الحارّ" كنت والملايين من العرب، نشاهد كلّ يوم أشلاء الأطفال والرضّع الفلسطينيين وقد مزّقتهم آلة الحقد الإسرائيلية، لأنهم ولدوا عرباً ومسلمين لآباء وأجداد هجّرتهم إسرائيل عام 1948 من جنوبفلسطين، وتجمّعوا في غزّة التي أصبحت بعد الاحتلال أكبر وأبشع سجن في تاريخ البشرية، سجنٌ تضمحلُّ أمامه صور معسكرات أوشورتز، والغولاك، والخمير الحمر. رحتُ أرصد الإعلام الأجنبي بحثاً عن أيّ إدانة للمجزرة من سياسي غربيّ، أو حتى مطالبة "الطرفين بضبط النفس" كما يحلو للغربيين عادةً الإشارة للإرهاب الإسرائيلي، علماً أنّ عدد الذين قتلتهم إسرائيل حتى يوم الأربعاء 5 مارس 2008، كان /123/ شهيداً بينهم /39/ طفلاً منهم أطفالٌ رُضّع، واثنتى عشرة أمّا، ومع ذلك لم أقرأ إدانة واحدة من أيّ مصدر غربيّ "متحضّر" أو دولي "ديمقراطي" لذبح هؤلاء الأطفال الأبرياء، الذين ذُبحوا بأحدث الأسلحة الأميركية الصنع والتمويل، وهم نيام في منازلهم، مع أمهاتهم. وساهمت كلّ الصحف والوكالات والمحطات الغربية بإسدال صمت مخز على هذه الجرائم، وهذا متوقّع. فكلّ الصحف الغربية لديها تعليمات صارمة بالمساهمة في الحرب على العرب. وتراوحت العناوين الجانبية بين لوم ما يحدث في غزّة من مجازر إسرائيلية على صواريخ تطلقها المقاومة الفلسطينية، وبين التوعّد بمحرقة لأهل غزّة من قبل مسؤولين إسرائيليين، وبين موقف رايس المعهود بتحميل الفلسطينيين أنفسهم مسؤولية المجازر التي ترتكبها إسرائيل ضدّهم، بالإضافة إلى استخدام الولاياتالمتحدة حقّ النقض "الفيتو" لمنع إصدار حتى بيان يدين إسرائيل ويدعوها للتوقف عن ارتكاب مجازرها الفظيعة هذه. وطيلة ذلك الأسبوع الدموي لم تنشر جريدة غربية واحدة خبر قيام الصواريخ الإسرائيلية بسحق هؤلاء الرضّع والأطفال وهم نيام في منازلهم، ولم نقرأ مقالاً رئيسياً واحداً عمّا ترتكبه إسرائيل من مجازر. وتراوحت الأخبار بين "هدوء في العنف بغزّة، بينما يتظاهر الآلاف: وزير إسرائيلي يقسم أن يوقف الصواريخ" (الهيرالد تريبيون 1 - 2 مارس 2008)، وَ "فقط رئيس جديد يمكن أن ينهي كابوس غزّة" (الاندبندنت 3 مارس 2008)، وَ "المستنقع الغزاوي لإسرائيل" (مجلة التايم 4 مارس). وَ "تهديدات صواريخ حماس تتوسع أكثر في عمق إسرائيل" (الوشنطن بوست 4 مارس)، وَ "صواريخ حماس تنال مدينة إسرائيلية: تشنّ القوات العسكرية توغلاً جديداً في غزّة" (جريدة الجارديان البريطانية 5 مارس 2008)، وَ "أولمرت يحذر من قتال أكثر قريباً، بينما تنسحب إسرائيل من غزّة، رئيس الوزراء يقول إنّ الهدف هو إضعاف حماس" (الجارديان البريطانية 4 مارس). "الفلسطينيون منقسمون على أنفسهم بسبب العنف الأخير من حماس" (الهيرالد تريبيون 6 مارس 2008)، وَ "وزير إسرائيلي يحذّر من هولوكوست في غزّة: الرؤية هي أنه سيصعب تجنّب عملية عسكرية كبرى" (الجارديان البريطانية 1 مارس)، وَ "رايس تطلب من الطرفين أن يقاوما المتطرّفين"، وعشرات العناوين الأخرى التي لا تقيم وزناً لحياة الشباب والأطفال والنساء التي زهقت على أيدي آلة قتل إسرائيلية مختصّة بالمجازر والقتل والتهجير والدمار. واتفقت معظم وكالات الأنباء على تصوير كلّ ما ارتكبته إسرائيل من جرائم قتل، يندى لها جبين البشرية، على أنه ردّة فعل على إطلاق صواريخ من غزّة إلى إسرائيل، مع أنّ أولمرت نفسه اعترف أنّ الصواريخ ليست هي السبب الوحيد لجرائمه كما اعترف أنّ حربه على لبنان لم تكن بسبب أسر جنديين إسرائيليين! ووصلت الصياغة هذه حدّ تبرئة إسرائيل من جرائمها بحيث تقرأ حتى في جريدة الاندبندنت البريطانية العنوان التالي "إطلاق الصواريخ من غزّة سوف ينجم عنها هولوكوست فلسطيني" وبهذا يحمّل العالم الغربي الفلسطينيين مسؤولية قتل إسرائيل لهم وتهجيرها لهم، واحتلالها لأرضهم، وهذه آخر نسخة من النفاق الغربيّ في تحميل الضحية مسؤولية ما يرتكبه طغاة إسرائيل من مجازر ضدّ المدنيين. وخلال أسبوع كامل من المجازر ضدّ المدنيين العرب لم يستخدم أحد كلمة "إرهاب" لوصف ما تقوم به إسرائيل من قتل حتى للرضّع والأطفال. ولكن هذه الصورة اختلفت تماماً، والعناوين تغيّرت مباشرةً حين أصبح الإسرائيليّ هو المقتول. فجأةً اختفت تعابير أنّ ما يتعرّض له الإسرائيليون هي "ردّة فعل" بل ظهرت تعابير الإدانة لل "المجزرة" و "الإرهاب" فحين قُتل أفراد من مدرسة يهودية في القدس يتخرّج منها الحاخامات المتطرفون، طالعتنا صحيفة الاندبندنت بعنوان "مجزرةٌ في قلب القدس" (7 مارس 2008) ولم تسمِّ أيّ جريدة غربية كلّ القتل الإسرائيلي للمدنيين العرب في فلسطين بأنه مجزرة أو إرهاب. وكانت أخبار مدرسة الحاخامات في الصفحات الأولى من كلّ الجرائد الغربية وغالباً ما نشرت الجريدة أكثر من مقال مذكّرة بأسوأ أيام الانتفاضة! وحدّدت العناوين أنّ الرجل المسلّح قتل ثمانية في مدرسة، لكنهم لم يروا أنّ الأطفال الرضّع في غزّة قتلوا في أسرّتهم وبيوتهم، إذ لم يكن هناك ذكر لهم على الإطلاق في الإعلام الغربيّ. انظروا إلى عنوان في مجلة تعتبر مرموقة مثل مجلة الإيكونوميست: "إسرائيل والفلسطينيون، الأحجية الدموية في غزّة: الإسرائيليون والفلسطينيون في شباك ركود قاتل وإسلاميّو حماس يرفضون أن يُدمَّروا" ما يريدونه هو دمار الفلسطينيين وليس إنهاء الاحتلال، والحلّ الذي يبحث عنه الغربيون إذاً هو إخماد توق الفلسطينيين للحرية وإسكات صوتهم المطالب بحقوقهم الوطنية إلى الأبد وهو الطريق الذي يعتبرونه الوحيد ولضمان أمن إسرائيل. إنّ أحداث الأسبوعين الأخيرين يجب أن تقنع، من لم يقتنع بعد من العرب، أنّ مجلس الأمن لا يتمكّن من إدانة قتل أطفال العرب، وأنّ الفيتو الأميركي بالمرصاد وجاهزٌ للاستخدام لضمان الاستهانة بدماء العرب وحياتهم وأنّ ما يدرج العرب على تسميته بالأسرة الدولية لم ينجح في إدانة قتل طفل عربيّ واحد، فما هو الحلّ إذاً؟ بالنسبة لإسرائيل سوف توقن بعد فترة أنّ العرب في فلسطين كما في لبنان يرفضون أن يتمّ "تدميرهم"، وأنّهم سوف يقاومون الاحتلال، وإن كانت تتعامل أحياناً مع نماذج ممن يقدّمون الانطباع وكأنّ العرب يقبلون الصفقات المهينة على حساب شعوبهم ومستقبل أجيالهم. وبالنسبة للعرب فإنّ الشهداء لم يذبحوا لأنهم غزّاويون، ولا لأنهم فلسطينيون فقط ، بل لأنهم عرب متمسكون بعروبتهم وأرضهم وهويتهم وحقوقهم. وتراهن إسرائيل في كلّ هذا على انكسارهم وهجرتهم من غزّة وفلسطين كي تبقى فلسطين قاعدة للإسرائيليين ينطلقون منها لفرض هيمنتهم على بقية الدول العربية. ولكنّ هذه السياسة تنمّ عن جهل عميق بالانتماء القومي لهؤلاء الذين يدفنون بألم شديد أطفالهم الشهداء ويعودون للصمود لأنهم يؤمنون أنّ الله مع الصابرين. سوف يزور أحرار العالم مستقبلاً موئل هؤلاء الضحايا كما يزور العالم اليوم جزيرة روبن آيلاند في جنوب إفريقيا، دون أن يكترث أحدٌ بعنصرية حاقدة بزت نسختها النازيّة في بشاعة جرائمها. ولكن على بعض العرب أن يتوقفوا عن الانزلاق في المصطلح الصهيوني كأن يعتبروا "صواريخ حماس مسؤولة عن المجازر الصهيونية بحقّ العرب" وأن يدعوا "الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني إلى التهدئة" حيث لا يوجد طرفان، بل طرف أجنبيّ يحتلّ أرضاً عربية، وطرفٌ عربيّ يدافع عن أرضه المحتلة. طرف إسرائيلي، مدعوم أميركياً وغربياً، يقتل دون رادع، وطرف عربي مسلم، أعزل من التضامن المطلوب من الأشقاء، يتعرّض للمجازر والاغتيال والحصار. مجازر الشتاء الإسرائيلي الحارّ ستلد، كعادتها، ربيعاً عربياً مزهراً بروح المقاومة. وسيكتشف باراك أيضاً هذه المرّة أنّ القتل والمجازر والحصار لا يحقق الأمان للقاتل الإسرائيلي، وأنّ طرفاً لا يمكن أن يحقق أمنه على حساب سحق كرامة الطرف الآخر مهما طال الزمن. العرب ليسوا اليوم هنوداً حمراً في قارة بعيدة، وليسوا أبورجينز أستراليا، ولا يمكن لإسرائيل في القرن الواحد والعشرين، مهما فعلت، أن تبيد حضارة العرب في فلسطين، ولا شعباً فلسطينياً تمتدّ جذوره في الحضارة الإنسانية عبر أمة تمتدّ عميقاً في الجغرافيا والتاريخ. صحيح أنّ الواقع الرسمي صعب ومخترق ومهين ولكن هناك ما يكفي من كوامن القوّة في روح هذه الأمة لدى الذين لن يسمحوا باستباحة ديارهم وكرامتهم. التضحيات كبيرة جداً نتيجة عدم خجل العالم "الديمقراطي والمتحضّر" من تجاهله لجرائم ترتكب باسمه وبأسلحته وبصمته في ضوء النهار وبدم بارد ضدّ المدنيين العرب دون أن تجد سطراً يليق بآلامهم على صفحات إعلام "الديمقراطيات" الغربية "الحرّ"! سنذكّرهم يوماً ونحن ننظر في عيونهم أنهم ارتكبوا جريمة الصمت عن مجازر الإسرائيليين ضدّ الأطفال العرب! عن صحيفة الوطن العمانية 11/3/2008