استهداف العراق والسودان واليمن بالتقسيم والشرذمة ليس مصادفة, انما لما تملكه هذه الاقطار من امكانيات استراتيجية واقتصادية وعسكرية.
عندما أُعلنت اتفاقية سايكس - بيكو ,1916 كانت المشاعر العربية تموج بالغضب والحنق لما آلت إليه الأوضاع في المنطقة العربية, حيث كان الإنسان العربي يُمني نفسه بمستقبل أفضل أثناء وبعد قيام الثورة العربية الكبرى, حيث كان الأمل عريضاً بتحقيق حلم الأمة العربية في وحدة بلاد العرب والانتقال من حالة الضعف والجهل والتخلف والفرقة الى حالة القوة والعلم والتقدم والوحدة, لا سيما بعد أن أعلن الملك فيصل الأول مملكة بلاد الشام (سوريا, لبنان, الأردن, فلسطين).
أعادت اتفاقية سايكس - بيكو ومن ثم وعد بلفور الأمة الى حالة من الصراع الطويل الذي لا نرى نهاية مشرفة له. حيث تصاعدت وتائر المؤامرة الخارجية ضد وحدة الامة العربية وضد وحدة الوطن العربي. لان القوى الاستعمارية وفي مقدمتها بريطانيا العظمى, لا يروقها أن ترى الأمة العربية موحدة فوق وطن مترامي الأطراف, يملك من الامكانات المادية والجيو-ستراتيجية والروحية, ما يؤهلها لأن تكون أمة فاعلة في العلاقات الدولية, ولها دور قيادي في صياغة النظام العالمي.
ولنا أن نتذكر بعض قرارات لجنة (كامبل بنرمان) 1905-1907 حيث قالت "يجب أن لا ندع أفكاراً مجنونة, كالتي راودت محمد علي باشا في مصر, تبرز الى حيز الوجود" واقترحت اللجنة أن يتم زرع حاجز بشري بين المشرق العربي وبلدان إفريقيا يحول دون تحقيق الوحدة العربية.
وعندما ينادي الغرب بعامة والدول الامبريالية في أوروبا والولايات المتحدة بالاصلاح السياسي والاقتصادي في البلدان العربية, فهي دعوات ذات غرض سيئ, إذ تريد اصلاحاً سياسياً يصب في خانة العولمة الاقتصادية; أي سيطرة الاقتصاد الرأسمالي في هذه البلدان. وعودة الى توصية كامبل بنرمان, بعدم السماح بالوحدة والتنمية.
إذ أن محمد علي باشا أحدث تنمية اقتصادية في مصر بجلب مصانع حليج القطن وصناعة الألبسة منها, وتحديث الجيش وصناعة الاسلحة له, وكذلك تحقيق وحدة مصر والسودان والجزيرة العربية, ومن ثم الوحدة مع بلاد الشام 1830-,1840 وسلخها من سلطة الدولة العثمانية, الى ان استنجد السلطان محمود الثاني بروسيا القيصرية, وتم عقد مؤتمر لبحث "المسألة الشرقية" وقد أُجبرت قوات روسيا وبريطانيا على تحجيم دور محمد علي وحصره في مصر والسودان فقط.
إن عرض هذه المقدمة لأخرج باستنتاج أن المؤامرة الخارجية لم تتوقف ضد وحدة الأمة وضد نهضتها, وهذه المؤامرة مترافقة مع الأمراض الداخلية المتمثلة في التعصب القبلي والتعصب القومي والديني والمذهبي والطائفي, وصارت نزعات الانفصال مقبولة لدى الحكومات الغربية, بل ساعدت القوى الانفصالية على الانفصال عن الدول التي كانت تنتمي إليها كما حصل في تمزق الاتحاد السو ييتي ومن ثم الاتحاد اليوغسلافي. والتقت مصالح غربية وشرقية في تشجيع نزعات الانفصال كما هو الحال اليوم في العراق والسودان واليمن.
إن ما جرى ويجري في البلدان الثلاثة هو تجسيد لتلاحم وتلاقي المؤامرة الخارجية مع الدوافع الداخلية التي تدفع باتجاه الاحتراب والنزاعات المسلحة وتغذية نزعة الانفصال الى أن تحين الفرصة المناسبة لتحقيق الانفصال.
في العراق تلاقت مؤامرة الغزو والاحتلال الامريكي مع النزعات القومية لدى الأكراد, والنزعات المذهبية الطائفية لدى الشيعة والسنة, فأحدثت نزاعات مسلحة محلية غذتها قوى خارجية دولية وإقليمية, بهدف تمزيق هذا البلد الذي يُعد في القلب من الوطن العربي, وله اسهام حضاري منذ القديم, ودور قومي متميز في الدفاع عن وحدة الامة وعروبتها, وبالذات دوره في الدفاع عن العروبة في فلسطين ولبنان وسوريا في الحروب المعروفة. المطلوب أن لا يعود العراق الى سابق عهده القومي الوحدوي النهضوي, بل أن يبقى ضعيفاً مفككاً متخلفاً, لكي تبقى خيراته وبالذات النفط تحت أيدي الشركات الاحتكارية.
أما السودان ذو المساحة الهائلة التي تتجاوز مليون كيلومتر مربع, وذو الثروات الغنية المعدنية ومنها النفط والحديد, والزراعية والحيوانية, وشعبه المتنوع في الافكار والمعتقدات, الملتزم بالعروبة بالاسلام, أيضا يتعرض الى مؤامرة خارجية تتلاقى مع دوافع محلية تتجسد في التخلف والجهل والمرض.
وخلال عقدين من الزمن نشب نزاع مسلح بين الحكومة السودانية, وحركة تحرير السودان في الجنوب, وقد أخذ النزاع طابعاً دينياً بين المسلمين في الشمال والمسيحيين في الجنوب. وما أن تم التوصل الى اتفاق وقف اطلاق النار بين الطرفين والمشاركة في الحكم, حتى نشب صراع آخر في دارفور وهذه المرة بين المسلمين في الاقليم, لكنه صراع بين العرب وبين الأفارقة, فهو صراع عرقي.
اما اليمن الذي توحد شماله وجنوبه قبل عقدين من الزمن, فهو بلد ذو موقع استراتيجي منذ عدة قرون, حيث كان ميناء عدن عقدة وصل للتجارة العربية التي كانت تنقل توابل الهند وحرير الصين الى بلدان أوروبا عبر من كان يُسمى "طريق الحرير", وظل ميناء عدن موقعاً ذا أهمية استراتيجية بالنسبة لبريطانيا عندما كانت تسيطر على الهند, وكذلك ذا أهمية للولايات المتحدة التي لها قواعد وأساطيل في بحر الهند وجنوب شرق آسيا.
هذا البلد المهم استراتيجياً فيه ثروات معدنية نفطية, وأراض زراعية خصبة كان في أقدم الأزمان محط أقدم وأعرق الحضارات, ومنها نزحت الأقوام العربية الى الجزيرة العربية وبلاد الرافدين وبلاد الشام. هذا البلد أيضاً تلاقت عليه المؤامرة الخارجية الغربيةوالشرقية لتقسيمه وابقائه في خانة البلدان المتخلفة. فالشطر الجنوبي الذي توحد مع الشمال عاد اليوم ليدعو الى الانفصال, وهناك قوى دولية تدعم علي سالم البيض لتحقيق الانفصال فهو صراع سياسي بين منهجين: الأول ليبرالي يمثله الرئيس علي عبدالله صالح. والثاني اشتراكي مطور يتزعمه البيض الذي يعيش في أوروبا.
البلدان الثلاثة بلدان مهمة في التاريخ وفي الموقع الاستراتيجي وفي الامكانات المادية والروحية. العراق يؤثر في محيطه, وكانت الإدارة الأمريكية تأمل أن يكون العراق أنموذجاً لديمقراطية ليبرالية, ذات بيئة انفصالية تحت مسمى الفيدرالية, ويمكن القول أن مشروع (بريمر-بايدين) الانقسامي, الفيدرالي كاد يتحقق لولا المقاومة العراقية الباسلة, فهي التي أفشلت هذا المخطط بإجبار الإدارة الامريكية على سحب القوات الامريكية من المدن العراقية, والوعد بسحب القوات من العراق كله بحلول عام 2011م. لكن مخاطر الانقسام والانفصال ما زالت قائمة من قبل الاكراد, إذ أن كل ممارساتهم تشير الى الانفصال, ولا مجال لتعداد تلك الممارسات التي أشرنا لها في مقالات سابقة.
أما السودان فرغم توقيع الاتفاق في نيفاشا مع الجنوبيين إلا أن بوادر الانفصال تبرز اليوم في الاختلاف على اجراء التعداد السكاني في كل محافظات السودان, تمهيداً لاجراء الاستفتاء حول حق تقرير المصير, والمؤشرات والممارسات من قبل الجنوبيين تنبئ نيتهم الانفصال عن الشمال, كما أن الاوضاع في دارفور تزداد تعقيداً لا سيما بعد قرار محكمة الجنايات الدولية توقيف الرئيس عمر البشير. ومحاولات الفصائل الدارفورية المدعومة من تشاد قلب نظام الحكم في الخرطوم.
أما اليمن فعلاوة على محاولات انفصال الجنوب عن الشمال, فان الحكومة اليمنية تخوض صراعا في الشمال مع جماعة الحوثي. وبعد أربع محاولات سابقة بين قوات الحكومة والحوثيين, يبدو أن هذه الجماعة مدعومة بقدرات عسكرية كبيرة مكنتها من خوض معارك كبرى مع جيش نظام مدرب ومزود بأسلحة حديثة, وتحتل مدينة صعدة وتخوض معارك حول دائرة الأحوال المدنية وحول القصر الجمهوري في المدينة.
إنني أقر بأهمية وتأثير المؤامرة الخارجية في الحالات الثلاث, لكن الوضع الداخلي السيئ الذي يسود فيه الفساد الحكومي المالي والإداري, والتخلف وعدم توفير مستلزمات الحياة الضرورية لمواطني هذه البلدان, هو الذي يفتح الأبواب أمام قوى التسلل الخارجي للاتصال بالمعارضة ودعمها للتمرد على الحكومات. الحكومات في هذه البلدان هي من أبرز الأسباب التي تقود قوى المعارضة للانفصال, لأنها لم تجر مصالحة صادقة معها, وكأن هذه القوى معادية للوطن, بل هي معادية لأنظمة الحكم. واحتمالات الانفصال القومي والعرقي والديني والسياسي ما زالت قائمة ما لم تقدم حكومات هذه البلدان على انتهاج سياسة وطنية تؤمن بالحوار والاعتراف بالاخر, وتوفر المشاركة في الحكم وليس اقصاءه تماماً من الحكم ومن الوطن.