تساؤلات وهواجس على هامش تهجير مسيحيي العراق كرم الحلو تتحدث التقارير في الأيام الأخيرة عن هجرة آلاف العائلات المسيحية من مواطنهم في العراق، في سياق مسلسل بدأ في أعقاب الاحتلال الأميركي عام 2003 ولا يزال مستمراً الى الآن طارحاً أكثر من علامة استفهام حول مغزى تهجير المسيحيين وتوقيته وأبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية. فبحسب الإحصاءات المتداولة وصل عدد مسيحيي العراق إلى 850 ألفاً قبل الاحتلال الأميركي، هاجر منهم نحو 40 ألف عائلة بعد حوادث تفجيرات الكنائس في بغداد. وأكد الحزب الآشوري ان نحو 250 ألف عائلة هي ما تبقى من جميع العائلات المسيحية في العراق، وهؤلاء يهمّون بمغادرة البلاد في أول فرصة تسنح لهم. ووصف البطريرك عمانوئيل دلي كبير أساقفة الطائفة المسيحية في العراق محنة المسيحيين العراقيين بالقول: »إنهم يعيشون هذه الأيام حالة محزنة وأليمة خصوصا في الموصل بعد إقدام جماعات مسلحة على مطالبتهم بإشهار إسلامهم او دفع الجزية«. لم نكن لنتوقف امام هذه الوقائع لو لم تأت متوجة لنزيف تاريخي طاول الوجود المسيحي في الشرق العربي بما ينطوي عليه من مغاز ودلالات تعبّر عن مأزق حضاري حاد يواجه الأمة العربية في المرحلة الراهنة. فقد دق مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك في مؤتمر السادس عشر عام 2006 نفير الخطير على الوجود المسيحي في الشرق محذراً من ضعف ووهن انتماء المسيحيين الى المنطقة، اذ تراجع مسيحيو القدس من 45 ألفاً في اربعينيات القرن العشرين الى 5 آلاف مطلع هذا القرن، وتراجع المسيحيون السوريون من 16,5 في المئة من سكان سوريا قبل ربع قرن الى أقل من 10 في المئة، كما عرفت مصر هجرة قبطية متزايدة في السنوات العشرين الماضية. باختصار بقي في العالم العربي عشرة ملايين مسيحي، بين أكثر من 300 مليون من الديانات الأخرى. ثمة تساؤلات وهواجس، إزاء هذا التراجع المتمادي في أعداد المسيحيين في العالم العربي وما يتعرّضون له حالياً في العراق: أ هل المسيحيون جسم غريب ناتئ في العالم العربي وفي الشرق العربي تحديداً، وهل كانوا يوماً كذلك على طول التاريخ العربي كي يهددوا اليوم ويُهانوا ويُعمل على استئصالهم من مواطنهم؟ الواقع إن هذا التاريخ يؤكد تجذّر المسيحيين في الأرض العربية منذ ما قبل الإسلام وقد كان لهم حضارتهم وثقافتهم وشعراؤهم، وهم استمروا كذلك بعد الإسلام، حيث أسهم مثقفوهم وتراجمتهم إسهامات كبرى في الحضارة العربية الاسلامية، ولا يصح الادعاء أنهم كانوا يوماً كياناً دخيلاً على هذه الحضارة، بل هم تفاعلوا معها في العمق وحملوها دائماً في وجدانهم ثقافة ولغة وتراثاً. وتصدى المسيحيون العرب في عصر النهضة العربية للارتقاء باللغة والأدب العربيين بعد عصور من التدهور والانحطاط. فانبرى المطران جرمانوس فرحات الحلبي 1670 1732 في تآليفه اللغوية وترجماته كما في قاموسه »أحكام باب الإعراب عن لغة الأعراب« ليجعل العربية قريبة المتناول، سهلة التراكيب، سلسة التعابير، وقد كان له الفضل الكبير في ترسيخ هذه اللغة، واعتمادها لغة اساسية في المدارس والأديرة المارونية، في عصر غلبت فيه العجمة على العربية، ما كان له انعكاساته الكبرى على اللغة العربية والوعي القومي العربي. وتميز المسيحيون بدور نشط وطليعي في مختلف الميادين الثقافية فأنشأوا المطابع والصحف وأسسوا الجمعيات الأدبية والمدارس الوطنية في المشرق العربي. فأنشأ المطران اثناسيوس الدباس في حلب عام 1702 اول مطبعة عربية. وألّف بطرس البستاني قاموسي »محيط المحيط« و»قطر المحيط« اللذين أسهما في تحديث العربية وتسهيلها على الناشئة، كما أنشأ عام 1860 »نفير سورية« اول نشرة سياسية غير رسمية في العالم العربي، ومجلة »الجنان« عام 1870 اولى المجلات الأدبية العلمية، و»المدرسة الوطنية« عام 1863 اولى المدارس الوطنية، ومن بين المسيحيين خرج رزق الله حسون صاحب »مرآة الأحوال« عام 1855 وخليل الخوري صاحب »حديقة الأخبار« عام 1858 وفارس الشدياق صاحب »الجوائب« عام .1860 ومن هؤلاء ايضاً رواد النهضة الفكرية والثقافية والقومية اليازجيان ناصيف وابنه ابراهيم وفرنسيس المراش الحلبي وأخته مريانا وسليم البستاني وجبرائيل ونصر الله دلال، وقد أسهم هؤلاء اسهامات أساسية ومركزية في اللغة والأدب والفكر، ما شكل تحولاً نوعياً في الثقافة العربية الحديثة. ولعب المسيحيون العرب دوراً مركزياً في الجمعيات الثقافية والتنويرية منذ أواسط القرن التاسع عشر، وكانت لهم المبادرة في اقامة الصالونات الثقافية وانطلاق النهضة النسائية، اذ خرجت من بينهم الشاعرتان الرائدتان وردة الترك ووردة اليازجي، ومريانا مراش اولى الصحافيات العربيات ومؤسسة اول صالون ثقافي في الشرق العربي. ب هل الحملة على مسيحيي العراق حالياً هي وجه من وجوه الانقلاب الظلامي على التنوير في العالم العربي، والذي بدأت ملامحه منذ أواخر القرن الماضي؟ هل يعاقب المسيحيون اليوم على دورهم التنويري في النهضة العربية ومناداتهم بالمواطنية والعلمانية وحقوق الإنسان والمرأة؟ هل هي إعادة محاكمة لفرنسيس المراش الذي كان أول المنادين بالدولة المدنية العقدية الحديثة، وبالتقدم السياسي والاجتماعي وفصل السياسي عن الديني، وبالحرية الفكرية والسياسية والاجتماعية؟ هل هي أحكام تأخر تنفيذها بحق بطرس البستاني اول دعاة القومية العربية ونجيب العازوري اول دعاة الوحدة العربية وأول من نبه الى الخطر الصهيوني في الفكر العربي؟ هل هي ادانة بمفعول رجعي لأديب اسحق وفرح أنطون وأمين الريحاني ومارون عبود وميشال شيحا وفرج الله الحلو وقسطنطين زريق لما بشروا به من أفكار العروبة والوطنية والتقدم والمساواة المواطنية والاجتماعية وحرية الاعتقاد والتفكير؟ ج أليس التعدي على مسيحيي العراق هو الوجه الأبرز للمحنة الحضارية العربية الراهنة وانكسار المشروع النهضوي العربي؟ والا لماذا يواجه مسيحيو العراق اليوم ما لم يواجهه المسيحيون العرب في تاريخهم من قتل وتهجير يذهب إلى حد الاستئصال؟ صحيح أن المسيحيين لم يتمتعوا بالمساواة الشرعية والعملية في المجتمعات العربية، ولكنهم لم يعرفوا إرهاباً فكرياً ولا يروي التاريخ العربي حادثة واحدة يمكن تشبيهها باضطهادات محاكم التفتيش الاسبانية للمسلمين واليهود او اضطهادات الكاثوليك والبروتستانت لبعضهم البعض في القرون الوسطى. إلا ان في ما يجري في العراق الآن دلالة الى ان ثمة انتكاسة كبرى في العالم العربي على صعيد الاعتراف بالآخر تترجم في ضيق الصدر بالمختلف العقائدي والديني، وفي الارتداد على التوجه العام للتاريخ العربي الذي استوعب، وان بصورة محدودة التعدد والاختلاف. د لماذا يضطهد المسيحيون الآن وفي ظل الاحتلال الاميركي بالذات؟ ولماذا لم يضطهدوا الا في أزمات الانحطاط وفي ظل الاحتلال الأجنبي. اضطهدوا في أثناء الحروب الصليبية وبعدها، واضطهدوا بفعل تحريض وتدخل الدول الكبرى والسلطة العثمانية في القرن التاسع عشر. واضطهدوا في الحروب الاهلية التي كان يقف وراءها الاستعمار، تخطيطاً وتحريضاً، من لبنان الى فلسطين الى السودان. هل كان ذلك مصادفة؟ أم أنه كان يخفي دائما وراءه أهدافا مبيتة للإساءة الى الحضارة العربية وفرض الأحادية الأصولية على الأمة العربية لإبقائها رهينة التخلف والنزاعات الأهلية والسيطرة الأجنبية؟ في ضوء هذه التساؤلات والهواجس يجب ان تفهم محنة المسيحيين العراقيين التي يجب ألا تجعلهم ينصاعون للمخطط التهجيري الذي يدفعون اليه والانسحاب الى أوطان بديلة. يجب ان يدرك المسيحيون العراقيون انهم والذين يسعون لتهجيرهم محاصرون على السواء بقوى الاستعمار والصهيونية التي تتربص شراً بالعرب جميعاً. إن بقاءهم وتجذرهم في الأرض العربية جزء من الرسالة التنويرية والقومية التي اضطلعوا بها منذ البدء، وقد كانوا دائماً الوجه المشرق للحضارة العربية الرحبة ونداء الاعتدال والانفتاح والتقدم، ويجب أن يبقوا كذلك، لأنه إذا خفت هذا النداء خفتت معه كل أصوات الحرية في عالمنا العربي. عن صحيفة السفير اللبنانية 30/10/2008