الناس من حيث الموت أصناف شتى، فمنهم من يتمنى الخلق موته وزواله، ومنهم من يتمنى الخلق بقاءه وخلوده، ومنهم من ينسوه فور أن يموت، ومنهم من يخلدوه في قلوبهم، ومنهم من ينأوا بخواطرهم عن مجرد ذكره، ومنهم من يعطرون الزمان والمكان بمآثره، وهكذا تتنوع ردود أفعال البشر حيال من يموت.. كل حسب ما قدم من خير أو شر في حياته وحياتهم.
إن الأبدان قد ترحل وتتلاشى.. وإن الوجوه قد تغيب.. وإن الملامح قد تُنسى.. وإن السعادة باللقاء والعناق قد تنقطع، غير أن حرارة اتصال الأرواح لا تنقطع أبدا، فإذا أحَبَت القلوب رجلاً طبعت اسمه ورسمه في صفحتها الأولى بمداد من ذهب، فما بالنا إن رأت العيون طيب الصنيع في كل شبر، وأحست النفوس بعبق الخير في كل ركن.. بالقطع سيتوج صانع الخير، وفاعل المعروف ملكاً على عرش قلوب من أحبوه.. بلا منازع من البشر.
والشيخ زايد.. رحمه الله، وطيب ثراه، وأبدل به الأمة خيراً.. كان نموذجاً بشرياً فريداً، جمع بين مواهب الفكر، والأدب، والسياسية، والقيادة، ثم صهرها في بوتقة واحدة لتنتج أكسيراً عجيباً في التخطيط والبناء.. فلو كان المستحيل كلمة مناسبة لقلنا إن الرجل قد حققه، فلقد حول الأرض اليابسة القاحلة إلى جنة خضراء تتباهى في ثوبها كأجمل عروس في ليلة عرسها، وحول شعبه من ضيق إلى فرج، ومن عسر إلى يسر، ومن فقر إلى غنى، في نقلة حضارية شهد عليها الواقع وسجلها التاريخ.
ثم إن الحكمة ريثما تختار رجلاً ليعبر عنها فإنما تختاره بعناية فائقة، وقد كان الشيخ زايد - رحمه الله - عَلَماً سامقاً من أعلام الحكمة، إذ قاد وطنه في مرحلة دقيقة من مراحل تاريخه بعناية واقتدار، حيث كانت يديه ثابتتان على الدفة.. لا تعرفان التردد.. غير عابئتان بالأنواء والأهوال والعواصف، فعبر بشعبه إلى شاطئ الأمان، ووضع أمته في مصاف الدول الناهضة الواعدة.
لقد وحَّد الرجل الكلمة، وجمع القلوب، ولملم الشتات المتناثر، فجعل من الإمارات دولة مسموعة الصيت في أرجاء المعمورة، إذ كانت إحدى قناعاته الراسخة أنه لا مكان في العالم للمتفرقين، ومن هذه القناعة جعل من الإنسان وسيلة النهضة وغايتها، فوجه عنايته الخاصة إلى بناءه فكراً وبدناً وعلماً، ليحقق فيه النموذج القادر على تحويل الأحلام إلى حقائق على الأرض، ولذا اهتم بالتعليم وبالصحة وبالرياضة، من أجل إنتاج النموذج البشرى المأمول الذي يؤدى دوره متحلياً بروح الفريق.. واضعاً رفعة وطنه فوق كل اعتبار.
من أجل ذلك بقى الشيخ زايد - رحمه الله - حياً بأفعاله ومآثره.. بقى حياً في قلوب محبيه وبني وطنه.. بقى حياً في حديثهم.. بقى حياً في أحداثهم، بل بقى حياً في ذرة من تراب وطنه. فمن قلب مصري أحبك - لأنك أحببت مصر.. فأحبتك مصر.. فحملت بعض بقاعها الطاهرة اسمك على صدرها كي يذكرك الجيل بعد الجيل - أرسل إليك في ذكراك بعض حروف نسخها ونسجها قلمي المتواضع إلى كلمات.. فسامحني إن عجزت الكلمات.. وتلعثمت العبارات.