المهندس عبد المعطي زكي الحادى عشر من فبراير 2011 يوم مشهود فى تاريخ مصر لأنه اليوم الذى رحل فيه إلى غير رجعه الطاغيه حسنى مبارك بعد أن جسم على صدورنا قرابة ثلاثين عاما أورثنا فيها الكآبه والفقر والمرض.
حتى إختفت البسمه من على الشفاه وإتجه كثير من الشباب إلى الهجره ولو كان الموت يحف برحلته
سنين طويله مرت كأنها كابوس مزعج أستيقظ عليه كل يوم حتى غدا حلمى ان اشهد فقط رحيل الطاغيه قبل أن أموت ولذلك ما أن قامت ثورة الشباب فى الخامس والعشرين من يناير حتى شعرت أن الأمل يتجدد من جديد.
وأن الأوضاع البائسه التى تعيشها مصرنا يمكن أن تتغير ومرت الأيام وأن أداوم على المتابعه والحضور إلى ميدان التحرير وأرى أعداد المتظاهرين تزداد يوما بعد يوم حتى تحولت من ثورة شباب إلى ثورة شعب إمتدت إلى كل ربوع مصر والنظام يستميت فى المقاومه .
ويحاول الإلتفاف عليها والشعب صامد وواعى وسقف مطالبه يزيد يوما بعد يوم وأعداد المنضمين تتزايد حتى أكاد أسمع زئيرهم فى كل شبر فى أرض المحروسه
وفى اليوم المشهود وحوالى الساعه السادسه مساء وقد بلغ التعب بى مبلغا وأنا الشيخ الذى جاوز الستين أهم بالعوده وقد بح صوتى من الهتاف والحركه من مكان إلى آخر فى ميدان الشهداء.
وإذ بى أسمع زئيرا يعم الميدان وأيادى بمئات الآلاف ترتفع إلى عنان السماء وزغاريد تدوى فى أرجاء الميدان الفسيح الذى لم يعد فيه مكان لقدم وكان الخبر الصاعقه الذى إنتظرناه طويلا
أخيرا رحل الطاغيه إلى غير رجعه وخرج الشعب من السجن الكبير كانت لحظة فارقه لن أنساها ما حييت فقد دبت الحياه فى جسدى وتلاشى كل إحساس بالتعب ودبت فى أوصالى حيوية متدفقه وشعرت أننى اعود إلى أيام الصبا والشباب .
وإنطلقت أجوب مع الجماهير الغفيره أرجاء الميدان نهتف من أعماقنا وقد عمت قلوبنا فرحة طاغيه حتى أن كثيرين منا إنتابتهم فرحة هستيريه فأخذت عبراتهم تتدفق غزيرة على وجوههم
اليوم فقط تحررت المحروسه من السجن الكبير الذى لن تدخله ثانية أبدا لأن المارد إنطلق من القمقم وتحرر من الأسر وعادت إليه الروح وكان الهتاف الذى تصدعت له قلوبنا ( إرفع رأسك فوق أنت مصرى )
الآن سبعة آلاف سنه من الميراث الحضارى تنطلق لتعلن من جديد أن الإنسان المصرى ولد من جديد يعلن بداية صحوة حضاريه سيظل العالم كله يتعلم منها إنها ثورة غيرت وجه مصر وستغير وجه المنطقه العربيه ووجه الإقليم .
بل وستترك تأثيرات شديدة على العالم كله هاهو شباب مصر يعلن ميلاد مصر الجديده بعد أن ظن الكثيرون أن الروح المصرية قد ماتت إلى الأبد وقد خاب بفضل الله ظنهم
لا أزال أعيش هذه اللحظه الفارقه ومن شدة إنفعال كيانى كله لم أستطع أن امسك القلم لأسطر رؤيتى لهذا الحدث الجلل إلا بعد أيام طوال.
وها أنا أبدا محاولا أن أقدم رؤيه تحليليه لهذه الثوره البيضاء رغبة فى إستمرارها وسعيا وراء استخلاص الدروس المستفاده منها وحرصا على إستمرارها فى طريقها المرسوم حتى تصل بمصرنا إلى شاطئ الأمان والسلام والرفاهه حيث الحريه والعداله والرخاء
1 - بداية هذه الثوره بعثت روحا جديده فى مصر فغدت الحياه رغم المعاناه الماديه أكثر بهجه فقد كنا كمصريين نعانى من فقر الكرامه أكثر مما نعانى من الفقر المادى
2- اثبتت الثوره أن رصيدنا البشرى من الشباب هو كنز كبير نملكه ولم نكن ندرك قيمته فروح الشباب الوثابه وتفاعله الخلاق مع منجزات التكنولوجيا وثورة الإتصالات مكنت هذا الشباب.
رغم الحصار الأمنى والإعلامى من تطويع التكنولوجيا والإستفاده من الشبكه العنكبوتيه فى تكوين شبكة إتصالات لتنفيذ الفاعليات الثوريه التى تمت فى وقت واحد فى كل أنحاء مصر
وتمكنت بذلك من تشتيت الجهود الأمنيه فلم تتمكن من محاصرتها والقضاء عليها مما إضطرها فى النهايه إلى الإنسحاب الذليل واللجوء إلى وسائل إجراميه لبث الفوضى والرعب وقبل أن ينزل الجيش إلى الشارع بأكثر من أربع ساعات فى خيانة واضحه لشرف الواجب والقسم على حماية الوطن والمواطن
3- أثبتت هذه الثوره أن الجيش المصرى ما زال الحصن الحصين للوطن والحامى الحقيقى للشرعيه الشعبيه وأنه على مدى تاريخنا الطويل لم يرفع الجيش سلاحا ضد مصرى.
فالجيش نزل لحماية الوطن والمواطن وهو حريض على تسليم الأمانه للشعب بعد فتره إنتقاليه يتم فيها إنتخاب رئيس جديد وتعديل الدستور وإنتخاب مجلس شعب حقيقى يمثل الجماهير ويحمى مكتسباتها
4- أثبتت هذه الثورة الأهمية المحوريه لمصر وثقلها الحضارى وأهميتها الإستراتيجيه حيث ما زال الوضع فى مصر يتصدر كل نشرات الأخبار فى كل أنحاء المعمورة.
وهذا الإهتمام المكثف بالشأن المصرى يعكس خسة الجريمه النكراء التى إرتكبها النظام البائد وعلى رأسه الطاغيه الراحل فى حق مصر وفى حق المصريين فكل مصرى الآن يشعر بالعزه وتعلو وجهه الفرحة ويشرئب من عينيه بريق الكرامه لقد ولدنا حقا من جديد
5 أثبتت الأحداث وحدة النسيج المصرى وتجذر روح المواطنه فى نفوس المصريين وعلو قيمهم الحضاريه الأمر الذى تمثل فى الفاعليات التى تمت فى ميدان التحرير حيث تجاوزت الأعداد الملايين فى كثير من الأيام .
ولم نجد إلا السلوك الحضارى والإنضباط الصارم دون وجود اى عنصر من عناصر الشرطه إلى الدرجه التى كانت فيها الأسر تنزل فيها الميدان برجالها ونساءها وأطفالها بل وشيوخها دون خوف ثقة فى المنظمين الشباب وفى حماية جيشنا الأغر .
فكان الميراث الحضارى لسبعة آلاف سنه يطل على ميدان الشهداء شاهدا على عراقة هذا الشعب وعلى وعيه الحضارى مما جعل ثورته حدثا غير مسبوق فى تاريخ العالم كما شهد أوباما بحق
6 -هذه الثوره ستؤرخ لميلاد جديد لمصر تعود فيها لدورها الريادى فمصر إن لم تتصدر المشهد الإقليمى فستغدو هدفا كما قال الراحل العظيم جمال حمدان بحق
والمارد متى إستيقظ فلن يمكن إعادته إلى القمقم والدور الحضارى لابد أن يبدأ من النهوض الحضارى بالداخل على سواعد المصريين وحدهم فقد أثبتت الأحداث أن الخارج يتحرك دائما وفق قاعدة المصالح الراسخة التى تتصادم بحكم الأطماع فى ثروات المنطقه وفى موقعها الإستراتيجى وفى القلب منها مصر مع المصالح الوطنيه
ولذلك فإن أول شروط النهوض الحضارى هوإستقلال الإراده الوطنيه والإعتماد على المقدرات الوطنيه وعلى الرؤيه الإستراتيجيه التى تنطلق من تصور واضح لمحورية الدور المصرى عربيا وإقليميا وعالميا
7-رغم التقدير البالغ للدور الريادى للشباب والذى تجاوز النخب السياسيه والفكريه التى أصابها العجز فقد كان هناك حاجه ماسه لإنخراط هذا الشباب فى تنظيم يتكلم بإسمه حتى لا يقفز الطامعون على دوره ويتحدثون بإسمه .
والحمد لله ان الشباب وعى بسرعه لهذا المنزلق وبدأ ينظم نفسه ويدخل مرحلة التفاوض ويتحدث بنفسه لأنه حقيقة هو صاحب الإنجاز ومن حقه علينا أن نستمع له
ولعل هذا يثبت بوضوح عمق الجرم الفاحش الذى إرتكبه النظام البائد وعلى رأسه الطاغية مبارك فى وأد السياسه سواء على مستوى العمل السياسى المباشر من خلال الأحزاب أو من خلال مؤسسات المجتمع المدنى والتى يمكن أن تقوم بدور رائد فى التحول الديمقراطى
8- المشوار نحو قطف الثمار الحقيقية للثورة لم يزل فى بدايته فحتى النظام القديم لم يتم إزالته بعد رغم رحيل الطاغيه فما زال أذنابه فى كل مكان مما يتوجب عليه استمرار الثوره .
من خلال المتابعه اللصيقه للمشهد بكامله وتملك رؤيه واضحه لخارطة الطريق ووعى شعبى ونخبوى يسانده إعلام يتصف بالمصداقيه ويتحرى الحقيقه ويسعى إلى تعميق الوعى فالمرحله الراهنه تتطلب إعلاما جادا على مستوى المرحله الحرجه التى يمر بها الوطن
9 - أخطر ما يمكن أن يحدث فى هذه المرحله هو التركيز على المصالح الفئويه وإهمال الشأن الوطنى ولا يعنى هذا بتاتا إهمال معاناة الفئات الضعيفه وإنما المقصود هو تحرك اصحاب المصالح من خلال ممثليهم دون مظاهرات فئويه تنطلق إلى تحطيم الممتلكات التى هى ملك المصريين جميعا
خاصة مع ضعف وضع الشرطه بعد الممارسات المخزيه لبعض قياداتها وأفرادها الأمر الذى أوجد شرخا فى العلاقه بين الشرطه والشعب.
وهو الأمر الذى سيستغرق وقتا لتجاوزه وإستقرار الوضع الداخلى هو أمر جوهرى فى هذه المرحله لوقف نزيف الخسائر وإستعادة المناخ الملائم لعودة الإستثمارات وعودة السياح مره ثانيه إلى ربوع مصر
السلمى للسلطة وعودة الجيش إلى ثكناته ليمارس دوره الطبيعي فى حماية الوطن ومواجهة التهديدات التى تمس أمن مصر القومى فلنتنبه جيدا لهذا المنزلق
10 - هناك حاجه ماسه إلى إعادة هيكلة جهاز الشرطه وتحديد دوره وتركيزه على جانب الأمن الجنائي وحماية المواطن والدوله وليس النظام فالشرطة يجب أن يكون ولاءها للشعب وليس للحكومة ومرحبا بعودة شعار السلطة القديم الشرطة فى خدمة الشعب
وهذا الجانب لأهميته لابد من تناوله فى دراسه مستقلة لعلها تكون بإذن الله موضوع مقالنا القادم للحاجة الماسه للتفصيل
11- الرؤيه المتعمقه لما جرى لمصر فى تلك السنين الثلاثين العجاف تثبت أن هناك ثالوثا مدمرا لابد من القضاء عليه هو التبعيه والاستبداد والفساد مع إختلاف فى الترتيب.
فهناك من يرى أن الأمر يبدأ مع الاستبداد الذى يحدث مع غياب الديمقراطيه والذى يترتب عليه الفساد لعدم وجود محاسبه ولضعف القاعدة الشعبيه لابد من التبعيه الذليله لحماية السرقات الرخيصه التى تمت فى حق الوطن وليس المهم الترتيب ولكن الحلقات الثلاث الجهنميه مترابطه فلن تجد أبدا نظاما ديمقراطيا له قواعده الشعبيه تابعا أو فاسدا وإن حدث فسوف يمكن محاصرته والحد من خطره
12 -هناك أمل كبير فى نهضة حضاريه فى مصر لأن أكثر سكان مصر من الشباب وهم يحلمون بمستقبل زاهر لهم ولأولادهم فهم أصحاب مصلحه فى نهضة هذا الوطن.
ولذلك لابد من الاهتمام بهذه الثروه البشرية ورعايتها وهنا يبرز اهميه الدور البالغ للتعليم والبحث العلمى والمناخ الديمقراطى الذى يوفر الاستخدام الرشيد لموارد الوطن ومحاصرة الفساد ولذلك فإن البداية هى فى تحول ديمقراطى حقيقى يتأتى من خلال مشاركه شعبيه حقيقيه
أقول فى النهاية أن مصر الجديدة تغيرت بعد 25 يناير فالأرض غير الأرض والناس غير الناس والزعامات غير ما كان حتى الهواء والماء والخضرة أصبح له طعما ومظهرا آخر إن مصر تزف فى عرس حضاري يحضره كل المصريين