.ونحن-الرأي العام العربي والإسلامي-نتنسمُ في لحظاتٍ نادرةٍ عَبَقَ هذه الانتفاضة المباركة التي أوصلَ أريجَها لنا هذا الشعبُ التونسيُّ الحبيب الشقيق العملاق البطل..هذا الذي رفعَنا-نحن الشعب الجزائري-شرفُ الجوار العقائدي والأخوي والظرفي والعُمق التاريخي والجغرافي معه للأوج....
الله أكبر...
ونحن نجلس تلامذة ً،منصتين،متعلمين،من هذا الأستاذ المارد الذي أطلَّ علينا جميعاً-نحن الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج-وهو يقدم لنا درساً،بليغاً،فصيحاً في توجيه الصفعةِ السريعة المناسبة إلى وجه الطاغوت الكالح،وإعقابِها بلكمة خاطفةٍ قاضيةٍ في مقتله،أفقدته توازنَهُ.
فراح-كالجُرَذ المذعور-يتلمس طريقَ الهروب والاستجداء،فلم يكن بُدٌّ من التولي يوم الزحف..لأنه هذا هو الشأن دائماً لطواغيتنا الشوارف المتهالكين كالأسنان البالية،الذين تأبى مروءة الشعوبُ الحقيقية إلا أن تلفظهم بنتانتهم وقذارتهم وعارهم وخزيهم كنفايةٍ في مزبلة التاريخ ....
الله أكبر...
ونحن نرى هذا الشعب الأبي ( الموْسوم دائما بالقلة والصغر العددي ) الذي أرادَ له الطاغية-لأكثرَ من عشرين سنة-أن يجفف فيه ينابيعه ( الزيتونية،البوعزيزية ) الحقيقية،ويقتلَ فيه بذرة البقاء وجذوة العزة والكرامة.
وراح يغطي فيه بأكسوسوارات ( السابع من نوفمبر ) و قناع ( العهد الجديد )..يغطي فيه بريقه الحقيقي،ويعملُ على تحطيم ألَق الكرامة والسيادة والأصالة التي تسري في شرايينه التي نخرها فسادُ الطاغية وفي جسمه الذي أنهكه الاستبدادُ والقهر والمصادرة...
اللهُ أكبر..
ونحن نرى هذا الشعبَ الصغير كيف يتعملق،ويمتد،ويكبُرُ،ويتشا مخ،فإذ بنا جميعاً-من المحيط إلى الخليج-تشرئبُّ أعناقنا ونحن في السفح الخانق،تحاولُ أن تستوعبَ بجيدها القصير هذا العملاق الباذخ،الراسخ،الكبير .
الذي عرفَ فجأة ًكيفَ يتجاوزُ الزمَنَ والحساباتِ والإستراتيجيات،ويتجاوز تكتيكات الجمعيات والأحزاب والمعارضة التي تنشط بيننا وفي أوطاننا،وتعِدُ في كل مناسبةٍ بأنها ستفعل وتفعل وتفعل....
لقد عرف كيف يتجاوز هذه الحسابات جميعاً،فكان فجأة ًوفي لحظةِ قدَر فريدةٍ...كانَ الحقيقة َالوحيدة وسط السراب والضياع الذي تعيشه شعوب الأمة العربية المسكينة....
أيها المارد الكبير الذي رحتَ فجأة ً تبعث فينا جميعاً وفي أنفاسنا المختنقة نسائمَ منعِشة حقيقية،راحتْ تتسلل برداً وانتعاشاً في ضمائرنا المحطمة ومشاعرنا التي مزقها الظلم والكبت والقهر والجوع والبؤس والغبن والفساد والرشوة والمحسوبية والبيروقراطية والحديد والنار وتكميم الأفواه وفرْض الأمر الواقع....
لقد كنا إلى وقتٍ قصير،نتلمس وسط القنوط واليأس جذوة َتنفيسٍ،نتنفس فيها عَبَقَ الكرامة المهدورة والعزة المفقودة،فكنا لا نستجديها غِلاباً وقسراً إلا من أبناء المقاومة..وكتائب المقاومة...
فكنا نحاول-وسط الاستبداد والاستخذاء المَعيشي والإداري والتنموي الذي يلفنا من كل جانب-أن نجدَ في أي حركة مقاومةٍ ضد العدو الأزلي عزاءً عن القهر والغبن..
وإذا ما تلفتنا-من المحيط إلى الخليج-إلى عزاءٍ آخر،فلا نكاد نرى إلا أفقاً ملبداً قاتماً،مليئاً بالعفن الذي جذرَه حكامُنا المهترئون الذينَ تآكلتْ أجسادُهم وبطونهم صديداً وقيحاً،فأوعزتْ بهم التخمة والتكرش إلى النظر إلينا كمجرد قطعان تشِبُّ عديمة الكرامة،مسحوقة الجانب.
ولكنكم بحركتكم السريعة والخاطفة هذه كنتم لنا درساً وأيَّ درس وعزاءً وأيُّ عزاء..... والله لقد أثبتم أن معركتكم لا تقل عن معركة غزة وجنين وجنوب لبنان و العراق الشهيد...وأن انتفاضتكم هي التوأم الحقيقي لانتفاضة الأقصى..لأن العزة والكرامة و الرجولة والفحولة والشهادة والتضحية لا تتجزأ أبدا....
أنتم يا عترتي في سيدي بوزيد والقصرين وريانة وسريانة والمنستير وبنزرت الجلاء وقفصة الجنوب والعاصمة الأبية.... أنتم فقط الجمعية الحقيقية...أنتم فقط النخبة الحقيقية...أنتم فقط الحزب العربي الحقيقي الحلم الذي تجسدَ حقيقة لاَ خيالاًً،وواقعاً لا مثالاً،وتطبيقاً لا تنظيراً...
أنتم الحقيقة الحقيقية،وما سواكم عبثٌ وديماغوجية ٌوادِّعاءٌ،لأنكم أحسنتم توجيهَ الضربة تحت الحزام وفوقه بما لا يفوقكم أو يُضاهيكم إلا مَنْ حذا حذوكم بالضرب على رأس أعتى ديكتاتور وأشرس نظام وأقمع أداة على مستوى الأنظمة العربية التي سرقتْ منا ذواتنا ووجودنا وكيْنونتنا وحطمتْ إنسانيتنا وباعتْ كراماتنا....
واللهِ...واللهِ إن الثلاثمائة مليون مطحوناً،مسحوقاً في العالم العربي يغبطكم،بل ويكاد يحسدكم على هذه النعمة الإلهية الجليلة التي شرَّفكم القدرُ بها.
لأن العملية القيصرية الجراحية التي قمتم بها،ولأن وصول مِقصكم إلى الورم السرطاني وقطعِه ورَمْيه-هو وجرابُ خلاياه العفنة-إلى خارج جسم تونس الحبيبة الطاهرة .التي-بإذن الله-ستستعيد عافيتها ونقاهتها.
لأن شأن العمليات الجراحية هو هذا...إنجازكم الجبار الفريد الذي قمتم به،يجب أن يُتبَع بجهود أخرى للحفاظ على الثمرة اليانعة المقطوفة..
فإن التاريخ-أحبتي التونسيين-علمنا أن الثورات والانتفاضات المباركات،يخطط لها الشرفاءُ والخيرون وينفذها الأبطال والصناديد..ولكنْ...ولكنْ فجأة يسرقها المرتزقة..!!!
اذكروا أن كراسي حكامنا الوسخة جميعاً تجددتْ وتعاقبت،يا إما بالانقلابات العسكرية بين رؤوس الأفاعي حين تبدأ في تصفية حساباتها بأكل بعضها البعض،وباسم الشعب الذي سيمتصون دمه ويقتاتون على كرامته وحريته يحكمون..
أو يا إما بالانتخابات المزورة،وكلنا يعلم إحصائية الثمانين والتسعة والتسعين في المائة..أو يا إما بتجذير الكراسي واتخاذ مقدرات الأمة عِزبَة ًأو بقرة حلوباً باسم المَلكية أو الجمهورية المَلكية....
أنتم فقط مَنْ شرَّفكمُ القدرُ بهذه السابقة الفريدة التي لم نعهدها منذ قام النظام العربي إلى اليوم..وأتحدى أن يتواجدَ في تاريخنا المعاصر نموذجٌ لحركتكم المباركة...
لم يسبق أبدا..أن هوى ديكتاتورٌ شرسٌ بهَبةٍ جماهيريةٍ،مخلِصةٍ،شجاعةٍ، جريئةٍ،ضربتْه بمطرقتها ضربة ًواحدة ًقطعتْ رأسه...!!!!! وفي زمن قياسيٍّ وبعيداً عن تكتيكاتِ المعارضة المشبوهة أو بمعونةِ عدو أوصديق خارجي... !!!!
وَيْ...!!! هل يوجدُ في المائة عام الماضية التي بسط فيها النظامُ العربي المهترئُ مخالبَه وأنيابَه..هل يوجَدُ نموذجٌ لضربتكم المُضرية اللازبة..؟؟؟
ما أظن أحداً سيجرؤ ويكذب على التاريخ... مكسبُكم تاريخيٌّ أحبتي،فقدروا لهذه النعمة قدرها.... الآن فقط استوعبنا كلامَ شاعركم العظيم أبو القاسم الشابي رحمه الله.
بل وعرفنا كمْ كنتم فكرة ًعامة ًلقوله... ألا أيها الظالمُ المستبد ** حبيب الفناء عدو الحياه سخرتَ بأناتِ شعب عظيم ،وكفك مخضوبة من دماه فلا تهزأنَّ بنوْح الضعيف ** فمن يبذر الشوكَ يجني الجراح... !!!!
واستعدوا ربما لهزاتٍ ارتدادية،سيديرُ هديرَها أذنابُ الطاغية وأعوانه وبقايا خلاياه وأحبابه وأصدقائه وإخوانه من طواغيتنا الذين شربوا من مورد الاستبداد الواحد في الداخل والخارج..
سيحاول هؤلاء إجهاضَ الإنجاز التاريخي الذي قمتم به،وستبدأ الذئاب في العُواء والغربان في الزعيق والبوم في النعيق،وستبدأ المؤامرات من هنا وهناك،من فوق البساط ومن تحته...
فسيِّجوا هذا الوليد المُضيء الذي كان الشرف العظيم العزيز لرحِم تونس الخضراء أن تحتضنه في شغاف الغيْب ليولدَ في الرابع عشر من يناير...تونس البشير صفر والشهيد فرحات حشاد..تونس الزيتونة والصوت الإسلامي والأصالي والعروبي الذي ظل الطغاة يخنقونه لعقود وعقود...سَيِّجُوه بتكاتفكم ويقظتكم وحسكم ونباهتكم.
فإن العروش الطاغية من المحيط إلى الخليج،تتهامس في ما بينها-فرَقاً وخوفاً-من أستاذيتكم التي أدَّبَتْ بعصاها رأسَ واحدٍ منهم،وهم بالتأكيد يرتجفون.
وأكاد أسمع اصطكاكَ أسنانهم التي تقطر دماءً من خيرات شعوبهم التي أمموها... أكادُ واللهِ أسمعُ ارتجاف أوصالهمْ مِنْ أن تظهرَ عِصِيٌّ أخرى،تتهاوى على رؤوسهم الخشِنة،لأنكم صرتم النموذجَ الأعلى والأرقى والأجمل والأوضح....