وحدي وسط الدرب لارفيق ولا أنيس ولامعين ، وحدي أتجرع مرارة وألم وظلم السنين، أتذكر تلكم الأيام الجميلة في وطني عندما كانت أرضه مخصبة مخضرة بالعشب ، ورافلة بكل أنواع الزهور والورود ،وكل أنواع العطور والرياحين ،مفعم بأنسام الطيب والياسمين .
كان وطني الرائع رمز للبطولة وعنوان للتحدي كنت فيه أحلم بغد أفضل ومستقبل زاهر مليء بالحب والود والإخاء والصفاء ،مكسو بأثواب العشق والحنين ،مفعم بالطمأنينة والسلام .
بدأت أكبر وبدأ وطني يكبر في عيني كما يكبر الحلم في عين الصغير كنت أرعاه وأسقيه من دمي كل أحبتي وكل أترابي يحلمون مثلي ،كانت البنايات فيه شاهقة والمآذن مرتفعة يتعالى منها صوت الذكر، والتهليل .
والمدارس والجامعات تشع بالعلم وتنشر المعرفة ونحن في غدو ورواح نموج في الطرقات والشوارع نمرح ونلعب فرحين مستبشرين كانت أدخنة المصانع ترتفع وتعلوا في سماء وطني الجميل وكأنه قاطرة أو سفينة تشق طريقها إلى المستقبل والغد الموعود.
مودعة زمن التخلف والماضي التليد مستقبلة عهدا وفجرا جديد،فجأة يأتينا اللصوص يهجمون علينا من كل مكان يحيطون بنا قادمون من كل حدب وصوب مدججين بالأسلحة مدرعين بالدروع وجوههم غريبة علينا لكنتهم ولغتهم لاتشبه لغتنا ألوان بشراتهم مختلفة عن لون بشرتنا.
يزعمون أنهم جاءوا لتحريرنا وتطويرنا وتنويرنا وتخليصنا من الجاهلية إلى الديمقراطية والرفاهية والازدهار، لقد جاء معهم الكثيرون من بني جلدتنا لكنهم كلهم يصوبون أسلحتهم ورشاشاتهم نحونا لم يعودوا يفرقون بين المارة والجلوس، ولا بين النيام والقيام .
رصاصاتهم تجتاح كل الأجساد لافرق لديها بين جسد ناعم وطري ضئيل ونحيل لطفل ليس يدري ماهذه القنابل والرصاصات الموجهة إليه كان يمد كلتا يديه الصغيرتين للمارة طمعا في قطعة شكولاتة أو حبة حلوى.
فإذابة يتلقى الطلقات والطعنات يهدون إليه لعبة مفخخة لتنفجر عليه ومعه رفقة أترابه فيذهبون شظايا وتتطاير أجسادهم الضئيلة أشلاء وتتمزق إربا إربا في الشوارع والطرقات،ولا إمرأة كانت تنتظر زوجها الذي غادر المنزل في الصباح الباكر بحثا عن قوت عياله.
فيحين وقت عودته للمنزل محملا بالمآكل والألبسة لهؤلاء الأطفال القاعدين في تلكم الزاوية من الغرفة لم يعودوا يستطيعون الخروج للعب في الشوارع خوفا من الوافدين والقادمين الجدد المحملين بالديمقراطية يوزعونها على كل من مر أمامهم بأفواه بنادقهم ويهدونها لكل الوقوف بالمجان.
لم يعد هؤلاء الأطفال يحلمون بالمدرسة لأن عهد الدراسة قد أصبح في خبر كان أمنيتهم مثل أمهم هي عودة الأب مساء ليجلب لهم الخبز والطعام والقليل من الملابس التي سوف يتدثرون بها من قر هذه الليالي الموحشة وبردها .
فإذا به يعود إليهم جثة هامدة مبتورة الأطراف منزوعة الرأس مبقورة البطن يجتمع حوله الأولاد تتساقط دموعهم وتشتبك مع تلكم الدموع المتناثرة من عين أمهم كحبات در تناثرت وتساقطت من عقد تحملق يمنة ويسرة ثم تدعوا له بالرحمة وتسترجع الله تعالى.
وتستوي قائمة لتجفف دموع أبنائها وهي تساءل نفسها لمن هؤلاء اليتامى ولمن هؤلاء الجياع الله الله عليكم أيها الدخلاء دون أن ننساكم انتم أيضا أيها العملاء .
أوشك الصبح أن ينفلق وبدأت خيوط الظلام تنساب تاركة مكانها لبياض الفجر تقوم الأم من مكانها لست أدري هل نامت ليلتها أم باتت قائمة تضع عباءتها على جسدها البيض البض لتغادر المكان متسللة و بخطى متثاقلة وبكل صمت وهدوء خشية إيقاظ أطفالها وهم يغطون في نوم بريء وعميق .
تخرج بحثا عن عمل علها تجلب قوتا أو قطعة خبز أو رغيف لهؤلاء الجياع الفاغرة أفواههم كفراخ الطير ينتظرون من أمهم ان تطعمهم وهي التي لم تألف الخروج مذ كان بعلها حيا .
فجأة يعترض الذئاب طريق عودتها يساومونها في شرفها تتمنع وتأبى ذلك فينهالون عليها ضربا بكل ماأوتو من قوة ثم يحتمعون عليها لاغتصابها ويكون الحظ حليفها إن تركوها حية .
تتقطع وتتمزق ألبسة الفتيات في الشوارع والطرقات نهشا من طرف السباع والكلاب المسعورة والتي تأبى يقطع جسمها ويمزق إربا إربا .
القنابل والمدافع تدمر المآذن والمساجد والكنائس والشباب والكهول يساقون زرافاتا ووحدانا نحو المعتقلات والسجون وقوافل المهاجرين الهاربين من وطنهم تعسكر عند حدود الجيران الذين كانوا بالأمس القريب نهدي إليهم نفطنا ونوزعه عليهم بالمجان .
لكنهم اليوم يتنكرون لنا ويرفضون إستقبال المشردين من أبناء وطننا الجريح المعذب المطعون باسم العروبة و المذبوح باسم القومية والمسلوخ باسم الوطنبية .
لنتحول نحن إلى فرق وطوائف نتطاحن في بعضنا البعض ونغتال أنفسنا وندمر بيوتنا عوض الإتحاد وطرد الغرباء من وطننا .
نقتحم بيوت بعضنا البعض ليلا نسرق مانشاء وننهب مانريد بعدما كنا ذات يوم نستودع ودائعنا عند بعضنا البعض وكنا نحمي حمانا إخوة وجيرانا .
فاليوم ماذا دهانا ياوطني ماذا دهانا تشردنا وانهكنا التعب والخوف واللاأمن وتحول وجه وطني الأخضر إلى وجه أسود قاتم مثل الرماد.
إحترق العشب وذبل الزهر وفنى فلم نعد نشتم رائحة الياسمين والرياحين أصبحنا نستنشق رائحة الجثث المتعفنة ،والمتناثرة هنا وهناك غابت زقزقة العصافير وأصوات الذكر والتهليل فلم نعد نسمع غير دوي القنابل والمدافع .
لقد تبخر حلمي الذي كنت أرعاه وأسقيه في لحظة ما إن قالوا أن أمريكا اجتاحت وطني لإرساء الديمقراطية فيه .