قضية الأصولية الإسلامية والأحكام المسبقة عبد الله علي العليان من الإشكاليات الراهنة بين الإسلام والغرب مفهوم الأصولية الإسلامية التي يرى الغرب أنها تتخذ العنف وكراهية الآخر منهجاً وطريقاً، وترفض التقدم والتحديث، وربط هذه النظرة أو الأحكام المسبقة بأزمة الكنيسة المسيحية وصدامها مع المذاهب الوضعية الفلسفية في القرن السابع عشر الميلادي، وهو تاريخ طويل من الصدام التصوري حول تحديد الرهان الفكري والديني القائم آنذاك، ولمن تكون له الغلبة في هذا الصراع العنيف بين السلطة الدينية والسلطة المدنية التي عرفتها أوروبا في تلك الحقبة، وانتهت بغلبة السلطة المدنية وتحديد دور الكنيسة وتحجيم دورها.. الخ. والأصولية وفق المفهوم الغربي هي رفض التجديد العصرنة والعقلية المتحجرة، أو هي حالة نفسية وعقلية ضد العلم والتجديد بشكل أعم، ويستند هذا المفهوم الى قيام الأصولية المسيحية بمحاربة الاختراعات واضطهاد العلماء والمفكرين بالتحريفات والمقولات غير المنطقية، حيث إن الكنيسة في الغرب، فرضت سلطة فكرية رهيبة تحجر على الفكر ومنطلقاته العقلية والعلمية، واحتكار الدين والوصاية عليه وتقديس البشر والرهبانية القاسية المجافية للفطرة، والإتيان بآراء تخالف المنطق والعقل وتدخلها في القضايا العلمية وظهور ما يسمى في أوروبا بصكوك الغفران ومحاكم التفتيش. وظهرت من جراء هذه “الأصولية" وفق المفهوم الغربي حركة التنوير والفلسفات المضادة لأفكار الكنيسة الغربية التي شوهت الدين نفسه، وجعلته يضطهد ويقهر العقول ويعارض العلم ويحارب التقدم والتطور، ويأتي بالأساطير والأفكار المعارضة للفطرة الإنسانية، وأسهمت ردة الفعل هذه في زيادة الهوة بين الدين والعلم ليس على أسس علمية، بل لعوامل وكوامن نفسية ونقائض فلسفية قامت الكنيسة على ترسيخه في الوعي الأوروبي، وأرادت تعميمه على كل دين وملة بهدف تشويه النظرة إلى العقائد بغض النظر عن الاختلاف والتنوع في أفكارها ومقاصدها. وعلى الرغم من الاختلاف الدقيق بين مصطلح “الأصولية" الغربي والأصولية وفق المفهوم الإسلامي، إلا أن الفكر الغربي ظل حبيس ذاته التاريخية ومأزق صراعه الطويل مع الكنيسة والأصولية المسيحية، وهذه النظرة الخاصة يحاول الغرب أن يعممها على الإسلام ومطابقة ما فعلته الكنيسة مع السلطة المدنية في الغرب، وهذه تنقصها المصداقية والواقع، ذلك أن “الأصولية" في المفهوم الإسلامي تناقض مفهوم هذا التعريف في الغرب، ويدرك الكثير من المفكرين الغربيين اختلاف هذه المفاهيم، لكنهم يتجاوزونها لأسباب كثيرة منها العداء المستحكم المسبق، والنظرة السطحية المقلوبة التي غذاها الاستشراق في حقب مختلفة، ولعل ما كتبه برناردلويس، صمويل هنتنغتون في هذا الصدد يغني عن الكثير من الالتباسات. من هذه المنطلقات يتحمل الغرب مسؤولية كبيرة في تكريس مصطلح “الأصولية الإسلامية" ومطابقتها للأصولية الكنسية في القرن الثامن عشر، وهذا ما عبر عنه المستشرق الهولندي “رودلف بيترز"، عندما قال: “إن نقد صحافتنا أمر واجب لأنها تمضي بعيداً في تسويق مفهوم خاطئ وهي تعيد ما قامت به أثناء الحرب الباردة من حماسة زائدة ضد العدو المفترض، وهي تتعاطى مع خبر الأصولية باعتباره خبراً جذاباً للقارئ، لأنها من ناحية تتبنى العنف والإرهاب ومن ناحية تختلف عن الواقع الغربي وتتصارع معه، ويمكن أن تكون نيات الصحافيين طيبة (!!) لكن يجب ألا ننسى المقربين من المؤسسات السياسية والحزبية التي لها مصلحة في التلاعب بالرأي العام وتوجيهه، وحتى الصحافي الموضوعي يواجه عوائق مهنية في تغطية الموضوع الإسلامي، فرؤساء التحرير الذين يبحثون عن الخبر، والحديث عن الإسلام المتنور أو المعتدل، لا يعتبرونه خبراً لا يجذب القارئ". وهذه بدون شك “قضية منهج" و"أزمة موضوعية" تحدث في الغرب على رؤوس الأشهاد، ويجدر بالغرب، وهو المتجذر بالديمقراطية والليبرالية، أن يفسح للرؤية الهادئة والواقعية المدروسة في أية ظاهرة من الظواهر، لأنه بلا جدال لكل ظاهرة إنسانية خلفيات وجذور وأسباب، ومن هنا يجب التعاطي معها باستقصاء وإلا أصبحت القضية برمتها مأزقا قائما ربما قد لا نعثر على سبل صحيحة لعلاج سلبياتها غير البارزة. وقد عبر عن هذا المأزق الموضوعي المنحسر في الغرب كما يقول برهان غليون المستشرق الفرنسي رودنسون في كتابه “سحر الإسلام" وكيف أنه في القرن السابع عشر وبعده كان الإسلام يعتبر في الغرب رمز التسامح والعقل، على النقيض من الدين المسيحي ومذاهبه المتعصبة للعقل، فقد أخذهم ما يؤكده من ضرورات التوازن بين حاجات العبادة وحاجات الحياة وبين المتطلبات الأخلاقية أو المعنوية وحاجات الجسد، وبين احترام الفرد والتشديد على التضامن الاجتماعي. وكان التركيز كبيراً لدى المثقفين في مواجهة المسيحية على الدور التحضيري للإسلام وعلى عقلانية الاعتقادات النابعة منه. فقط كما يقول د.غليون منذ المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر بدأ الأوروبيون يعتبرون أن المسيحية هي سبب التقدم والنجاح في أوروبا، وأن الإسلام هو سبب العجز والتأخر في العالم العربي والإسلامي، وبعد أن كان الإسلام يستخدم كنموذج للدين العقلاني والحضاري في مواجهة المسيحية “المتعصبة والبربرية" بدأت الآية تنعكس تماماً ليصبح الإسلام شيئاً فشيئاً مثالاً للبربرية التي تهدد الغرب، لقد ترسخت القناعة بأن أوروبا هي قاعدة الحضارة وأن كل من يقف في وجه أوروبا هو معادٍ للحضارة، وكأن الإسلام كثقافة ومدنية ومجتمع هو العقبة الرئيسية إن لم تكن الوحيدة التي تحول دون امتداد التوسع الغربي في اتجاه الجنوب والقارات والحضارات القديمة، وكان لا بد لهم من أيديولوجية تؤجج العداء له وتبرر العدوان عليه في الوقت نفسه في نظر الأوروبيين أنفسهم ونظر العالم. ومن هذه الرؤية الجامدة نشأت “الأصولية العلمانية" في الغرب التي لا تقبل غير الرؤى المنطلقة منها، صحيح أن الغرب عندما انقلب على الكنيسة جردها من سلطاتها وأزاحها من مكانتها الكبيرة في المجتمع الغربي، لكنه لم يتنازل كلية عن طموحات هذه البابوية وذاكرة المركزية الأوروبية على أنها محور الإنسانية وتاريخها وإقصاء الآخر وتهميشه فكرياً وثقافياً وتأسيس ذاكرة تاريخية ثقافية محورها “الأنا" الغربي وتميزه وتفوقه بصفات وخصائص يفتقدها الآخر عقلياً وحضارياً وعرقياً. إذاً القضية أبعد من كونها نظرة سطحية ساذجة أو عاطفية عابرة لذلك فإن ازدواجية الطرح تجاه الإسلام له من الخلفيات ما يجعل المحلل أو الباحث يفقد معايير الدقة والمصداقية، ومنها موضوع “الأصولية"، ومع الاختلاف البين في المصطلح فإن الغرب لا يزال يصر على تسمية الإسلام وربطه “بالأصولية"، وفق المفهوم المسيحي الكنسي في القرون الغابرة. و"الأصولية في الإسلام" تعني الالتزام بقواعد السلوك والقيم في عصره الأول، وكما عرفه السلف الصالح في الفقه والاجتهاد ومقاصد التشريع، لكن الأصولية في الغرب هي النظرة المتزمتة التي تحارب العلم والاختراع والعصرنة وهذا ما ينكره الإسلام. أما موضوع العنف والتطرف والإرهاب الذي يجتاح عصرنا الراهن فان المؤثرين في صناعة القرار في الغرب يحاولون أن يلصقوا هذه الظاهرة ب “أصل الإسلام" وطبيعته الكامنة فيه، وهذا غير صحيح، فالإسلام وأصوله التشريعية ترفض مبدأ العنف وتنكر الإرهاب والتطرف مهما كانت أسبابه، وقد لا نتجاوز القول إن جزءا من ظاهرة العنف والإرهاب ترجع إلى مشكلات فكرية وثقافية تتعلق بهؤلاء، والبعض الآخر يتحمله الغرب بمعاييره المزدوجة، لذلك فإن الأولوية في القضاء على هذه الظاهرة هي العدل في الأحكام على الأشياء والظواهر من دون محاباة أو كراهية، وبغيرها سيكون العلاج كمن يقاتل طواحين الهواء مثلما فعلها “دون كيشوت" ولله في خلقه شؤون. عن صحيفة الخليج الاماراتية 16/10/2007