الذوق خلق؟!..نعم هو خلق بكل ما تحمل الكلمة من معان ودلالات، بل قل إن شئت إنه خلق رفيع المستوى، فلئن رأيت أدباً في الحديث، ورقياً في الحوار، وتحضراً في الطرح والمناقشة..فهذا من قبيل الذوق، ولئن شاهدت حياء وخجلاً من إتيان المنبوذ من القول والفعل..فهذا من بنود الذوق، ولئن رأيت سلوكاً متحضراً في الشارع والجامع والجامعة..فهذا من إنتاج الذوق، ولئن رأيت احتراماً للقيم والآداب العامة بلا رقابة أو وصاية..فهذا من فروض الذوق، ولئن رأيت نقيض كل ذلك..فاعلم أنه لا ذوق..!!.
إذاً فالذوق خلق ذا خصوصية شديدة، لامتلاكه ناصية التعبير عن الإنسانية الراقية المهذبة بدلالات الأقوال والأفعال والسلوكيات العفوية أو التلقائية، التي تصدر عن صاحبها وهو يمارس حياته العادية بلا تكلف ولا تمثيل ولا تقعر، بحيث تشعر أنها عادة ولازمة سلوكية لا تنفصل عن الإنسان أو ينفصل عنها مهما كانت المنغصات أو المشكلات أو الضغوط التي يتعرض لها وهو يسعى متحركاً بين الناس، يتعامل مع كبيرهم وصغيرهم، وقويهم وضعيفهم، وسيدهم وخادمهم، فلا ترى اختلافاً في التعامل بين هذا وذاك، فعندئذٍ يوضع الذوق على المحك العملي لبيان صدقه من زيفه.
إن من السهل واليسير أن نجلس في الغرف المكيفة، وعلى المقاعد الوثيرة، وتحت الإضاءة المبهرة ثم ننظم شعراً وكلاماً منمقاً حول موضوع الذوق و"الإتيكيت"، لكن العلة لا تتمحور حول الكلام والتنظير رغم أهميته، إنما تتمحور حول الممارسة العملية في واقع الحياة حتى لا يكون هنالك انفصام وانفصال بين النظرية والتطبيق والقول والفعل، ومن ثم يصبح الكلام بلا أثر ملموس فتتلاشى قيمته وتذهب هيبته، لأن كل قول لا يترتب عليه عمل يعد عبثاً وإهداراً للوقت وتشويهاً للحقيقة محل الكلام.
ولذلك فإن من الأولى ألا نتحدث عن الذوق كإحساس جمالي فقط، بل يجب أن نتحدث عنه كسلوك حياتي أيضاً، بحيث نرسى لدى الناس فهماً و إدراكاً بكيفية أدائه وخطوات تنميته ليصبح اسماً على مسمى، لا أن يصبح حبراً على ورق. حدثني أحد الأصدقاء وقال لي: سافرت إلى فرنسا في بعثة دراسية، وذات مرة أشعلت سيجاراً وأنا أترجل في أحد شوارع باريس الجميلة، ومع الدخان المتطاير من فمي وأنفى أخذتني سنة من التفكير في أحد القضايا، فسهوت وألقيت بكعب السيجار على الأرض، وأنا أعلم أن ذلك لا يليق بشارع على هذا القدر من الجمال، ومضيت ولا زال السهو يغلف ذاكرتي، حتى انتبهت على يد تجذبني، وإذا بها يد صبى في التاسعة أو العاشرة من عمره، أخذني الطفل إلى المكان الذي ألقيت فيه كعب السيجار، وأشار بأدب جم إلى أن أعقاب السجائر لا تُلقى هنا، بل هنا، وأشار إلى صندوق للمهملات قريب، تصبب العرق رغم البرد القارص من جبيني حياءً وخجلاً، ثم مضيت أقول إن الذوق يجب أن يحتل دائماً بؤرة الشعور، والمغزى من وراء الواقعة يحتاج إلى تحليل طويل وعميق.
إن الحقيقة التي لا تقبل الجدل أن الذوق فطرة بشرية جميلة، لكن من الممكن أن تنطمس معالم هذه الفطرة وتصبح أثراً بعد عين إذا ما تحقق هذا الثالوث:- 1/ افتقاد القدوة العملية. 2/ الغرور والكبر. 3/ الفقر والجهل. هذه أضلاع ثلاثة..تطرد مجتمعة أو متفرقة الذوق عملياً من سلوك أي مجتمع، وإن بقى الحديث عنه نوعاً من الترف يُمارس بين الحين والآخر، فكيف نربى أولادنا على الذوق بينما تخترق آذانهم وعيونهم وقلوبهم تلك المشاهد التي يذبح فيها الذوق ذبحاً؟ كيف يحترم أولادنا معنى الذوق، بينما صورته بعض الأفكار على أنه نوع من الخيبة، وقلة والحيلة من خلال التكريس لمفاهيم (الفهلوة) و"اللماضة" و"المفهومة"، وغيرها من عاميات قبيحة تحكمت في كلماتنا وأفعالنا؟ كيف يقيم أولادنا للذوق وزناً بينما لا نضحك فرحاً إلا من إتيان نقيضه؟.
يا سادة، إن الذوق العام يعانى خطراً محدقاً، وما المشاهد المؤسفة للتلوث السمعي والبصري إلا دليل حي على فقدانه وغيابه، هل رأيت من يلقى بقاذوراته في النيل؟ هل رأيت سيل عربات "التوك توك" وهى تكسر كل قواعد المرور، وتملأ الأرض ضجيجاً عبر أغاني السوق المشهورة؟ هل رأيت مكبرات الصوت في الأفراح، والمآتم، ومع الباعة الجائلين؟ هل رأيت كيف نستخدم المرافق والمتنزهات والأماكن العامة؟ هل رأيت كيف نختلف ويقدح بعضنا بعضاً، لك أن تضع ألف هل، وكل واحدة منها تبحث عن حل، والأدهى أن صارت كل هذه السلوكيات السيئة حقاً مكتسباً يدافع عنه صاحبه بضراوة واستماتة، تحت مبررات لا أصل لها، فكيف تمضى الحياة على هذا النسق؟!.
من أجل ذلك فإنه من الأهمية القصوى أن نعيد ضبط كلماتنا و آرائنا وتصرفاتنا على ميزان الذوق، حيث لا غنى أو استغناء لأي مجتمع يسعى إلى ترسيخ قيمة الإحساس بالجمال، والحرص على الممتلكات العامة، والإبقاء على البيئة نظيفة جميلة بلا تلوث، من ممارسة الذوق كسلوك عملي في كل مناحي الحياة.