لبنان الأمس ولبنان اليوم محمد خليفة مع اقتراب الاستحقاق الرئاسي في لبنان، يستمر الوضع السياسي في هذا البلد على ما هو عليه، من انقسام بين تيارين متباينين في التوجهات والأهداف، بين من يريد إعادة الزمن إلى الوراء وإعادة ربط لبنان بدول الغرب، وبين من يريد بناء لبنان جديد يكون لكل طوائفه ومذاهبه في إطار دولة تحكمها القوانين المرعية الإجراء، وفي ظل علاقات متميزة مع المحيطين العربي والإسلامي. وهذا التجاذب حول تحديد هوية لبنان ليس وليد اللحظة، بل هو موجود منذ أن وجد الكيان اللبناني، والسبب في ذلك هو ضعف العرب والمسلمين بشكل عام. فبعد أن ظهرت النهضة الحديثة في أوروبا أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، طمعت الدول الأوروبية مثل فرنسا وبريطانيا وأيضاً روسيا في مدّ نفوذها إلى الشرق العربي كونه يقع في قلب العالم ويتوسط طرق المواصلات بين الغرب والشرق. وكان جبل لبنان يضمُّ طائفتين رئيسيتين هما: الدروز والموارنة، وبه أقلية كاثوليكية وإسلامية سُنيّة وشيعية. وكان الشهابيون الدروز يحكمون هذا الجبل منذ أن أزاحوا المعنيين الدروز أيضاً عن الحكم عام 1697. وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر بدأت الإرساليات التبشيرية الغربية تغزو جبل لبنان، وتم تأسيس مدرستين هما “عين ورقة" و"عين تيريز"، وكان خريجوها من أبناء الأسر المارونية والروم الكاثوليك. وقد ساعدتهم شهاداتهم التي حصلوا عليها في التوظف في بلاط الأمير الشهابي الحاكم. ومع بداية القرن التاسع عشر ظهرت حركة تبشيرية أوروبية كبيرة، وانتشرت المدارس مما زاد من عدد الخريجين منها. وفي عام ،1790 تولى الأمير بشير الشهابي الثاني حكم جبل لبنان، وأظهر الولاء والطاعة للدولة العثمانية، ولكن في عام ،1822 دخل في اتفاق مع والي عكا عبدالله باشا للتمرّد على الدولة والاستقلال عنها، ولكنهما أخفقا وفرَّا إلى مصر ملتجئين إلى واليها محمد علي باشا، الذي توسّط لهما لدى السلطان العثماني محمود الثاني، فعفا عنهما، وعاد كل منهما إلى إمارته. وعندما قدم إبراهيم باشا إلى بلاد الشام فاتحاً لها عام ،1831 انضمّ إليه الأمير بشير الشهابي. ومع زوال الحكم المصري من الشام عام ،1840 وقع الأمير بشير الشهابي في أسر العثمانيين ونقلوه إلى الأستانة، وبقي فيها حتى وفاته عام 1850. ومع انهيار حكم الشهابيين تقهقر وضع الطائفة الدرزية اقتصادياً وسياسياً، مما دفع بالكثير من أبنائها إلى الهجرة إلى حوران في سوريا، وقابل ذلك زيادة النفوذ الاقتصادي والسياسي والسكاني عند الموارنة الذين كانوا مجرّد فلاحين عند الدروز. وقد عزز هؤلاء “الموارنة" دورهم في إنتاج الحرير، وساعدهم ارتباطهم بهذه الزراعة على زيادة نفوذهم الاقتصادي. وقد ازدهرت هذه الزراعة بإحياء الصلات التجارية بين أوروبا وبلاد المشرق، وأصبح الموارنة أكبر المنتجين اللبنانيين، لذا تمكّن بعضهم من الإثراء فتعزز وضعهم الاقتصادي، وجاء التغلغل الاقتصادي الفرنسي في جبل لبنان ليُسهم في تعزيز امتيازات الموارنة. وهذا ما دفع الدروز إلى الاعتقاد بأن ما يحصل يشكّل خطراً عليهم، مما أدى إلى حدوث مذابح عام 1860 ضد الموارنة. وقد أثارت تلك المذابح استياء دول أوروبا (فرنسا، بريطانيا، روسيا، النمسا، بروسيا)، واضطرت الدولة العثمانية إلى الخضوع لمطالب هذه الدول، فتم إعطاء جبل لبنان استقلالاً ذاتياً في ظل ما سُمي نظام المتصرفية، على أن يكون المتصرف مسيحياً مرتبطاً بالباب العالي مباشرة. ومع انهيار الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى عام ،1918 بدأ الانتداب الفرنسي لسوريا ولبنان، وعلى الفور أعلن الجنرال الفرنسي غورو ولادة دولة لبنان الكبير عام 1920 بحدوده المعترف بها حالياً، بعد ضمّ الأقضية الأربعة إلى جبل لبنان وهي: ولاية بيروت بما فيها صيدا وجبل عامل وحاصبيا وراشيا وبعلبك والمعلّقة. وانتقل لبنان من كونه متصرفية ذات استقلال ذاتي، إلى دولة تتمتع بالاستقلال الكامل تحت الوصاية الفرنسية. وقد ظل المسلمون يشعرون بالغبن الشديد في تلك الدولة إلى أن وقعت الحرب الأهلية عام ،1975 والتي أدّت إلى حدوث تغيير ديمغرافي كبير في لبنان. فقد أصبح للمسلمين حضور لافت في هذا البلد، وتحوّل المسيحيون إلى أقلية، ولم تستطع فرنسا ودول الغرب إنقاذهم وإعادتهم إلى مركز القيادة. وهذا بلا شك، يعدّ تراجعاً كبيراً لسطوة الغرب في العالم وخاصة في عالمينا العربي والإسلامي. ومع الاختلال الكبير في موازين القوى في لبنان لمصلحة المسلمين، فإن هذا البلد مرشح للدخول في أزمة جديدة، وهذه المرة سيكون الاستحقاق الرئاسي عنوانها الأساسي. عن صحيفة الخليج الاماراتية 7/10/2007