أبعد من الحماقة والحسابات الخاطئة جلال عارف هل هي الحماقة والجهل والحسابات الخاطئة وحدها التي قادت رئيس جورجيا ميخائيل ساكاشفيلي إلى مغامرته البائسة، فيهاجم اوسيتيا الجنوبية بالمدفعية والصواريخ ويدفع جيوشه لاقتحامها ونشر الدمار فيها وقتل وجرح الآلاف من أبنائها؟!
وهل يمكن تصور أن الرجل بنى حساباته على أن العالم مشغول بمتابعته دورة الألعاب الاولمبية؟ وأن روسيا ستقف متفرجة على ما يحدث على حدودها وما يهدد أمنها، وأنها إذا تحركت فستكفي كما يفعل الطيبون من أمثالنا!! ببيانات الشجب والتنديد، ولن تحرك قواتها لتدافع عن أمنها وتنزل العقاب بساكاشفيلي وقواته؟ و
هل علينا أن نصدق أن الرئيس الجو رجي وهو يعرف أن وجوده مرتبط بالدعم الأميركي له، قد فعل ما فعل بعيداً عن عيون أميركا وبدون أن يصل الأمر لعلم الإسرائيليين الذين يتولون بالتنسيق مع أميركا مهمة تدريب القوات المسلحة الجورجية ويتغلغلون بنفوذهم إلى أجهزة الدولة المناوئة لروسيا!! وبدون علم دول أوروبا، وبعيداً عن عيون حلف الناتو الذي يضع المنطقة كلها تحت المراقبة المشددة!!
إذا توقفنا عند ردود الفعل الأولى فقد نجد علامات على ذلك . فالولايات المتحدة التزمت في البداية شيئاً من الحذر بعد التدخل السوفيتي، وأوروبا ركزت جهودها على محاولة تطويق الأزمة، والرئيس الجورجي وقف يصرخ بأن حلف الناتو يتركه لمصيره ولا يتحرك لإيقاف الروس!!
لكن الأمور تطورت بعد ذلك، وبدأت رسائل الدعم لجورجيا وطمأنة ساكاشفيلي تتوالى من أميركا وأوروبا، وتزايدت الضغوط على موسكو لسحب قواتها، لكن الأهم كان على جبهة أخرى حين اختارت واشنطون هذه الظروف بالذات لتوقع مع بولندا اتفاقية نشر الدرع الأميركية المضادة للصواريخ على أرضها وهو ما تعتبره موسكو تهديداً مباشراً لأمنها، وليتم التأكيد من أميركا وحلف الناتو على مخططات ضم جورجيا مع أوكرانيا للحلف، وهو أمر كان على الدوام يمثل «الخط الأحمر» الذي تؤكد موسكو أنها لن تسمح به.
وفي تفسير هذا التصعيد من جانب أميركا والاتحاد الأوروبي سنجد أنفسنا أمام احتمالين:
* أن يكون الأمر رد فعل على ما حدث يريد تحجيم «الانتصار» الذي حققته موسكو بسبب الحماقة الجورجية، ويستهدف إعادة التوازن في المنطقة حتى لا تستغل روسيا الموقف لتثبيت أقدامها واستعادة نفوذها وفرض موازين قوى جديدة تستفيد من هذه الهزيمة الجديدة لإدارة الرئيس بوش وحلفائها الحمقى!
* أما الاحتمال الآخر، فينطلق من أنه لو كان الأمر فقط هو محاصرة «الانتصار» الروسي، لتوقف عند حدود جورجيا واستهدف خروج القوات الروسية، لكن الأمر هنا يتجاوز ذلك بتوقيع اتفاقية نشر الدرع الصاروخية مع بولندا، وبالتأكيد على النية في ضم أوكرانيا وجورجيا نفسها لحلف الأطلنطي.
و بالدخول في مرحلة جديدة من المواجهة مع موسكو تطرح التساؤل حول إمكانية أن تكون «حماقة ساكاشفيلي» مجرد عنصر تم استغلاله بالتواطؤ أو التغاضي عن مغامرته غير المحسوبة من أجل خلق موقف تضطر فيه روسيا للتدخل، ليتم في هذا الجو المشحون نشر الصواريخ الأميركية في بولندا، ودفع روسيا إلى سباق تسلح جديد يستنزف قواها قبل أن تستكمل عملية إعادة بناء اقتصادها.
إن استعادة مناخ التوتر مع روسيا قد يكون في هذه المرحلة هدفاً لصقور الإدارة الأميركية أو من تبقى منهم. ففي ظل هذا المناخ يمكن تبرير تضخم الإنفاق العسكري والتغطية على الانتكاسات في العراق وأفغانستان، وخدمة المرشح الجمهوري ماكين بتقديمه على انه الأقدر على مواجهة التحديات القادمة وليس اوباما الذي يفتقر للخبرة في الشؤون الدولية .
وإذا كانت حالة التوتر في علاقات أميركا والغرب مع روسيا سيتم استخدامها في الحملة الانتخابية الأميركية لشهور، فإن الصراع الذي بدأ لن ينتهي سريعاً .
.فلا أميركا ستقبل هذه الهزيمة الجديدة ولا تستسلم سريعاً بأن انفرادها بشؤون العالم كان كارثة لها وللعالم معاً، ولا روسيا ستقبل بتهديد أمنها ومحاصرة دورها بل ستسعى لاستغلال انتصارها وتوسيع نفوذها . والطريق إلى نظام عالمي جديد تتعدد فيه الأقطاب وتراعى فيه المصالح المختلفة مازال طويلاً.
وما يهمنا أننا في قلب هذا الصراع، وأننا شئنا أم أبينا سنكون جزءاً أساسياً فيه. ولعلها ليست مصادفة أن تستقبل العاصمة الروسية في يومين متتاليين الرئيس السوري بشار الأسد ثم العاهل الأردني الملك عبد الله في زيارتين قد تكونا مقررتين سلفاً، ولكن تزامنهما مع الأزمة الراهنة يعطيهما أهمية متزايدة، خاصة وأن الطرفين العربيين يأتيان من موقعين مختلفين.. الرئيس السوري من موقع الحليف لموسكو، والعاهل الأردني من موقع الصديق لواشنطون.
وما يهمنا هنا أن نتخطى هذه المواقع المتباينة، وأن يعود الاثنان من موسكو ليضعا رؤيتهما أمام أطراف عربية أخرى من أجل بلورة موقف عربي في مواجهة التحديات التي تتزايد في المنطقة وفي العالم. ولعل تصريحات أمين الجامعة العربية عمرو موسى في الأسبوع الماضي حول إنجاز بعض التقدم في جهود المصالحة العربية العربية أي بين القاهرة والرياض من ناحية وسوريا من ناحية أخرى أن تتأكد بخطوات عملية وسريعة تستشعر الخطر وتتحمل المسؤولية وتتجاوز خلافات أصبحت عبئاً يدفع الجميع ثمنه الفادح!! عن صحيفة البيان الاماراتية 24/8/2008