الصواريخ الروسية في كوبا محمد خليفة جعلت أمريكا من مكافحة الشيوعية الأقنوم الأول في سياستها الخارجية، وكانت قاعدتها الأساسية إبقاء الاتحاد السوفييتي خارج النفوذ في العالم، عن طريق إذكاء خطر الماركسيين والماركسية، وخطر المرتكزات الفلسفية والإيديولوجية لهذا النهج النظري والنقدي من أجل السيطرة على الأحداث وتسعير الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتي، بعدما تمكّن هذا الأخير من امتلاك قنبلة ذرية عام ،1949 حيث أصبحت قوته مكافئة للقوة الأمريكية التي كانت تتفوّق عليه قبل ذلك. واتجهت الدولتان إلى صنع الصواريخ المزوّدة بالرؤوس النووية بهدف نشرها على خطوط التماس بينهما في قارة أوروبا، والمحيط الهادئ، والقطب الشمالي. وكانت أمريكا اللاتينية تخضع لهيمنة الولاياتالمتحدة، وفي جميع دولها حكومات موالية لها. وفي جزيرة كوبا القريبة من ولاية فلوريدا الأمريكية، كان هناك نظام ديكتاتوري يقوده باتيستا المدعوم أمريكياً. وفي عام ،1959 تمكّن الثوّار الشيوعيون بقيادة فيدل كاسترو من إلحاق هزيمة منكرة بجيش باتيستا وخضعت كوبا لهم. كان انتصار ثورة كاسترو حدثاً مهماً يختلف عن كل الثورات التي حدثت في أمريكا اللاتينية، لأنه كان متحمّساً للمبادئ الشيوعية وموالياً للاتحاد السوفييتي. ولذلك كان أول عمل أقدم عليه هو التحالف مع هذا الاتحاد وإقامة علاقات دبلوماسية معه. وقد أثار هذا التحالف حفيظة الولاياتالمتحدة، لأنها تعتبر كوبا من المناطق الحسّاسة بالنسبة إلى أمنها بسبب قُربها منها، فنشب خلاف بين أمريكا والاتحاد السوفييتي والنظام الكوبي الجديد، خاصة أن كاسترو بدأ يتدخّل في شؤون دول أمريكا اللاتينية محاولاً تصدير الثورة الشيوعية إليها. وازداد نشاطه في كل من الدومينيكان، وهاييتي، ونيكاراجوا، وبنما، وفنزويلا، وكولومبيا، وغيرها، من خلال الاتصال بالعناصر الشيوعية في هذه الدول ومدّها بالمال والسلاح. وعقد كاسترو معاهدة تجارية مع الاتحاد السوفييتي عام ،1961 نصّت على التزام الحكومة السوفييتية بمدّ كوبا بما تحتاج إليه من النفط وغيره من المواد التي تفتقر بلاده إليها. ومن ثم عقد، في العام نفسه، صفقات أسلحة مع الاتحاد السوفييتي ومع بعض الدول الشيوعية الأخرى. كانت الولاياتالمتحدة تراقب ما يجري في كوبا بقلق وتأهّب، وعقدت عزمها على سحق تلك الثورة الشيوعية قبل أن يستفحل أمرها في أمريكا اللاتينية. وبدأت باتخاذ قرار اقتصادي كفاتحة حرب ضد كوبا، وهو عدم استيراد السُكّر منها. وردّ كاسترو باتخاذ قرار بتأميم أموال الولاياتالمتحدة في كوبا، وكانت هذه الأموال تبلغ مليار دولار، فردّت الحكومة الأمريكية بإصدار قرار بفرض المقاطعة التجارية على كوبا، وقطعت العلاقات الدبلوماسية معها، وفتحت باب الهجرة إلى الولاياتالمتحدة لأعداء كاسترو وخصومه السياسيين. وجد الاتحاد السوفييتي في كوبا الشيوعية فرصة لتقريب الحرب الباردة من الحدود الأمريكية وتضييق الخناق على الولاياتالمتحدة، فقرر السوفييت إقامة قواعد عسكرية في كوبا. وفي عام ،1961 بدأوا بإرسال شحنات ضخمة من الصواريخ النووية المتوسطة المدى، ومن الطائرات المقاتلة من نوع “ميج 21"، ومن الطائرات الحاملة للقنابل الذرية، والطائرات المهاجمة، وأصبحت مدن الجنوب الأمريكي في مرمى الصواريخ والطائرات السوفييتية. وعلمت الاستخبارات الأمريكية بخطة السوفييت تلك، فأعلن الرئيس الأمريكي آنذاك، جون كينيدي، أن أمريكا تواجه أخطر تحد لها في الحرب الباردة خلال السنوات العشر الأخيرة. ومن ثم هدد السوفييت بالحرب إن لم يسحبوا قواعدهم من كوبا، وكاد العالم يقع في أتون حرب نووية كبرى لا أحد يعلم كيف ستنتهي. أدرك السوفييت جديّة الموقف الأمريكي، فأعلن الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف في أواخر أكتوبر/ تشرين الأول من عام ،1961 تراجع الاتحاد السوفييتي عن إقامة قواعد عسكرية في كوبا مقابل تعهّد الأمريكيين بعدم مهاجمة كوبا، وأصدر أمراً بسحب الصواريخ والطائرات الموجودة هناك. وعلى الرغم من أن هذا التراجع السوفييتي قد جنّب العالم ويلات حرب نووية، إلا أنه كان ضعفاً من السوفييت أمام الولاياتالمتحدة. وتزعزعت ثقة الدول الشيوعية، ولاسيما الصين، بالاتحاد السوفييتي، وأدرك العالم أجمع أن الولاياتالمتحدة هي القوة العالمية الأولى. ومن ذلك التراجع بدأ مسلسل الانهيار في الاتحاد السوفييتي إلى أن بلغ الذروة عام 1991. ولعل أبلغ درس يمكن استخلاصه من الأزمة الكوبية، هو أن الدولة التي تُقدِم على فعل معيّن، ينبغي ألا تتراجع، لأن عواقب التراجع أبلغ من عواقب أي موقف آخر. لكن التاريخ قد يعيد نفسه. فروسيا تسعى الآن إلى نشر صواريخ في كوبا رداً على اعتزام الولاياتالمتحدة نشر درعها الصاروخية بالقرب من الحدود الروسية. ولا يقتصر المسعى الروسي على كوبا الراغبة في استعادة علاقاتها التقليدية معها في شتى المجالات، بل يشمل أكثر من دولة من أمريكا اللاتينية التي تعتبرها منطقة جيوستراتيجية بالغة الأهمية بالنسبة لمصالحها الأمنية والاقتصادية. ولن تغضّ واشنطن الطرف عن الوجود الروسي على حدودها، ولن يبقى أمامها هذه المرّة إلا مساومة موسكو على درعها الصاروخية أو دخول علاقات البلدين في مرحلة جديدة من التوتر. عن صحيفة الخليج الاماراتية 24/8/2008