الصراع الجورجي الروسي ومواقف الدول الغربية د. يوسف نور عوض العلاقات السياسية بين جورجيا وروسيا أكثر قدما من علاقات جورجيا مع أي من الدول الأوروبية الأخرى، وقد توثقت هذه العلاقات خلال القرون الوسطى قبل الغزو المغولي ثم عادت من جديد لتكتسب قوة جديدة، خاصة أن الملوك الجورجيين كانوا ينظرون إلى روسيا على أنها حاميتهم أمام التهديدات التي مثلها العثمانيون والإيرانيون في تلك المرحلة. وفي الربع الأخير من القرن الثامن عشر وقعت جورجيا معاهدة مع روسيا وضعت بموجبها مملكة كارتلي كاخيتي الجورجية تحت الوصاية الروسية ولكن على الرغم من هذه العلاقات القوية فإن روسيا لم تقدم أي مساعدة لجورجيا عندما قام العثمانيون بغزوها في عام ألف وسبعمئة وخمسة وثمانين. ومرة أخرى في عام ألف وسبعمئة وخمسة وتسعين وبدلا من أن تقدم روسيا المساعدة لجورجيا فقد انتهزت فرصة الغزو العثماني للاستيلاء على مزيد من الأراضي الجورجية. وفي عام ألف وتسعمئة وثمانية عشر قام الجورجيون بتأسيس جمهورية لم تعش طويلا أمام زحف البلاشفة الذين أسسوا النظام الشيوعي في ما أطلقوا عليه الاتحاد السوفييتي. وظلت الصراعات مستمرة بين جورجيا وروسيا خلال مرحلة الاتحاد السوفييتي وبلغت ذروتها في عام ألف وتسعمئة واثنين وتسعين بسبب تأييد روسيا للحركة الانفصالية في أبخازيا وكذلك بسبب الميول الانفصالية في أوسيتيا. لكن الرئيس الجورجي إدوارد شفردنادزة خضع للضغوط الروسية في مقابل أن تسحب روسيا دعمها للرئيس الجورجي المخلوع 'زياد جامساخورديا'. وقد توصلت جورجيا وروسيا في قمة اسطنبول في عام ألف وتسعمئة وتسعة وتسعين إلى إخلاء جميع القواعد الروسية في جورجيا قبل اليوم الأول من شهر تموز (يوليو) عام ألفين وواحد، ولكن على الرغم من ذلك فقد ظلت روسيا تسيطر على كل قوات حفظ السلام في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية بينما خضعت لنقد متواصل من جورجيا وبعض الدول الغربية بأنها لم تكن تلتزم الحياد في أداء مهمتها. وفي المقابل كانت روسيا توجه اتهاماتها لجورجيا بأنها كانت تقدم دعما للإنفصاليين الشيشان الذين كان بعضهم يتمركزون في مناطق جورجيا الشرقية. وقد هددت روسيا بأن تشن هجوما كاسحا عليهم في عام ألفين واثنين وذلك ما أرغم جورجيا على اتخاذ خطوات لحفظ النظام في المنطقة. وفي عام ألفين وستة قال وزير خارجية جورجيا لإحدى الصحف الروسية إن روسيا فقدت دورها كوسيط في المشكلة الأبخازية وبالتالي فإن جورجيا ستبذل جهودها للتعامل مباشرة مع الأبخازيين. خلال هذه المرحلة منحت روسيا جنسيتها لكثير من الأبخازيين والأوسيتيين وذلك ما جعل جورجيا تتهم روسيا بأنها مستمرة في التدخل في شؤونها الخاصة، ومن جانبها اتهمت روسيا جورجيا بأنها تعد لعمل عسكري ضد قواتها في المنطقة وضد الانفصاليين في أبخازيا وأوسيتيا. وقد شهدت العلاقات الجورجية - الروسية تدهورا حادا في عام ألفين وستة عندما قامت السلطات الجورجية باعتقال أربعة من الروس بتهمة القيام بأعمال تجسس، وقد ردت روسيا على ذلك بفرض عقوبات على جورجيا وقطع علاقاتها الدبلوماسية معها. خلال هذه الأزمة بدأت روسيا في ترحيل المواطنين الجورجيين من أراضيها وقد أدى ذلك بجورجيا ومنظمات حقوق الإنسان إلى اتهام روسيا بأنها تسيء معاملة المهاجرين الجورجيين على أراضيها. وقد قدمت الحكومة الجورجية قضية إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية وصفتها روسيا بأنها عمل عدائي ضدها. وفي آذار (مارس) من عام ألفين وسبعة اتهمت جورجيا روسيا بأنها قامت باعتداءات بالمروحيات على إحدى القرى في أبخازيا وتبع ذلك سقوط صواريخ روسية في إحدى القرى الجورجية على بعد خمسة وستين كيلومترا من العاصمة تبليسيي، وقال الرئيس سكاشفيلي إن هذا الهجوم يأتي في سياق عمل روسي منظم ضد بلاده وطالب الدول الأوروبية بأن تدين الاعتداء. لكن الرئيس ألأوسيتي إدوارد كوكريتي قلل من شأن الاتهامات الجورجية ووصف التعليقات التي صدرت عن تبليسي بأنها عمل استفزازي. ومن جانبها فقد ظلت روسيا تنفي الاتهامات الجورجية وقالت إن الصواريخ التي أشارت إليها جورجيا ربما كانت قد صدرت عن طائرات جورجية وذلك ما وصفته جورجيا بالهراء. وفي أيلول (سبتمبر) عام ألفين وسبعة ثار جدل من جديد بين روسيا وجورجيا بسبب تصريحات أدلى بها السفير الروسي لدى جورجيا قال فيها إن جورجيا أمة منقرضة وفي طريقها للزوال أمام زحف العولمة بينما ستبقى روسيا لأنها دولة كبيرة. وفي تاريخ السابع من تشرين الثاني (نوفمبر) عام ألفين وسبعة اندلعت اشتباكات بين مظاهرات احتجاجية في جورجيا وقوى الشرطة وصفها سكاشفيلي بأنها تهديد للأمن في بلاده وقال إن لديه دلائل على تورط دبلوماسيين روس في هذه الاضطرابات وإنه سيتخذ قرارا بطرد بعض هؤلاء الدبلوماسيين الذين يقومون بأعمال التجسس. وقد اعتبرت روسيا هذا الموقف بأنه ضرب من عدم المسؤولية وقالت إنها ستظل على التزامها بالنسبة لإيجاد حل لمشكلتي أبخازيا وأوسيتيا من خلال تصميمها على حماية الروس الذين يعيشون في هذين الإقليمين. وفي شهر نيسان (أبريل) من عام ألفين وثمانية أسقطت طائرة بدون طيار في أبخازيا وقال الانفصاليون الأبخاز إنهم قاموا بعملية الإسقاط لأن الطائرة اخترقت مجالهم الجوي ولكن جورجيا أصدرت في اليوم التالي صور فيديو قالت إنها دليل على أن الطائرة أسقطت بصاروخ روسي من طائرة كانت تحلق فوق البحر الأسود. ومن جانبها أنكرت روسيا وقالت إنه لم تكن لديها أي طائرة في المنطقة لحظة وقوع الهجوم، وقد عقد مجلس الأمن في الرابع والعشرين من نيسان (أبريل) جلسة خاصة لبحث الأمر ولكنه فشل في أن يتوصل إلى قرار وذلك بالطبع بسبب الموقف الروسي بينما أصدرت الولاياتالمتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا بيانا مستقلا يعرب عن قلق هذه الدول بشأن إسقاط الطائرة. وفي السادس والعشرين من أيار(مايو) أصدرت لجنة خاصة شكلتها الأممالمتحدة بيانا يتضمن نتائج تحقيقاتها حول الحادثة وقد أكدت التحقيقات أن الفيديو الذي نشرته جورجيا حقيقي وأن كل الدلائل تؤكد أن الطائرة أسقطت بواسطة صاروخ روسي. وقد أثارت هذه الحادثة مشكلات كثيرة بعد أن اتهمت روسيا جورجيا بأنها تحاول استغلال دعم دول النيتو من أجل حل مشكلة أبخازيا بالقوة ومحاولة وضع قوات دولية في وادي كودوري. في شمال شرق أبخازيا. وعلى إثر ذلك قررت روسيا زيادة قواتها في المنطقة وهددت بأنها سترد على أي استفزاز جورجي. وفي أيار (مايو) عام ألفين وثمانية قالت روسيا وأبخازيا إن ثلاث طائرات انتهكت المجال الجوي الأبخازي واتهم الجانبان جورجيا بأنها تعد لاعتداء على المنطقة وطالبت أبخازيا روسيا بأن تضعها تحت حمايتها المباشرة. وأنكرت جورجيا هذه الاتهامات ووصفتها بأنها جزء من حملة الدعاية الروسية التي تحاول أن تخفي بها موسكو عدوانا متوقعا على جورجيا. وفي الثامن من آب (أغسطس) الحالي ظهرت الحقائق واضحة عندما قامت القوات الجورجية بهجوم في محاولة لاستعادة إقليم أوسيتيا المنفصل ولكن هذا الهجوم ووجه بموقف مضاد من قبل القوات الروسية في إقليمي أوسيتيا وأبخازيا. وفي العاشر من الشهر دخلت روسيا إلى المياه الإقليمية الجورجية كما قامت القوات الروسية بهجوم على المواقع الجورجية في داخل جورجيا وفي الإقليمين المنفصلين وقد اتفق الجانبان على وقف إطلاق النار بوساطة فرنسية ولكن ظلت الاتهامات متبادلة بين الجانبين بخرق هذا الاتفاق. وكان واضحا منذ البداية أن الرئيس الجورجي سكاشفيلي يشعر بمرارة لأن الدول الغربية لم تتحرك لنجدته في الزمن المناسب وهو تحرك جاء متأخرا لحفظ ماء الوجه، ذلك أن المواقف المتشددة من جانب دول النيتو وحتى تصريحاتها بانها قد لا تعارض قبول جورجيا كدولة ضمن دول الحلف قد لا يغير من الوضع شيئا. لأن النيتو يعلم أن جورجيا تواجه مشاكل كثيرة وأن دخولها إلى الحلف هو جلب لمشاكل قد يكون الحلف في غنى عنها خاصة أن روسيا لن تتراجع أمام جورجيا، كما أن الاستهانة بروسيا قد لا يكون موقفا عقلانيا لانه حتى لو لم تكن روسيا تمتلك تقنية متقدمة فهي بكل تأكيد تمتلك سلاحا نوويا قادرا على تدمير العالم عدة مرات كما أنها تضع القارة الأوروبية كلها رهينة تحت يديها ولن تغامر أوروبا بامنها في رهان خاسر. ذلك أن روسيا لا تحتاج إلى تقنية متطورة ترسل بها صواريخها إلى الولاياتالمتحدة أو أي بلد أوروبي آخر، فهي تستطيع أن تلقي قنابلها في أي مكان من العالم لتخلق نوعا من الفوضى تجعل العالم كله مكانا خطيرا، وبالتالي سيكون من الخطأ وضع دروع صاروخية حول روسيا بدعوى أنها موجهة ضد إيران لأن روسيا ليست بهذه الدرجة من السذاجة لتصدق ما يقوله الغربيون، كما أنه من الحماقة أن تقبل جورجيا أو أوكرانيا أو أي بلد آخر نظاما دفاعيا يهدد الأمن الروسي لان النتيجة ستكون مقاومة روسية عنيفة، وخير من أن يستمر العالم في عملية الشد والجذب - التي قد تؤدي إلى نتائج خطيرة في حال وقوع خطأ افتراضي يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة - فإن المطلوب هو مزيد من العقلانية والابتعاد عن التفكير النمطي الذي ظلت تمارسه الولاياتالمتحدة منذ نهاية الحرب الباردة التي يبدو أنها ستعود من جديد وستكون أكثر قوة في هذه المرة. عن صحيفة القدس العربي 21/8/2008