"الخراب": نهاية حل(الدولتين).. وحلم (السلام) العادل
*محمد عبد القادر
"الاستيطان والمصادرة والسيطرة والاستيلاء والحرمان من الخدمات وسحب الهويات...."..مجددا وكعادتها واصلت سلطات الإحتلال الإسرائيلية إنتهاكاتها للإراضى الفلسطينية المحتلة ضاربة عرض الحائط بالإتفاقات الموقعة مع الطرف الفلسطينى،وبكافة بنود القانون الدولى وقرارات الشرعية الدولية الصادرة عن الهيئة الأممية.
بل وزادت عليها.. فبعد أيام قليلة فقط من ضرب إسرائيل عرض الحائط بمواقفة لجنة متابعة مبادرة السلام العربية على اقتراح أمريكي بإطلاق مفاوضات غير مباشرة بين حكومة الإحتلال والسلطة الفلسطينية وما أعقب ذلك من قيام نيتانياهو وخلال زيارة نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن للمنطقة بإعطاء الضوء الأخضر لإقامة 1600 وحدة استيطانية جديدة بالقدسالمحتلة..
فاجأت إسرائيل العالم أجمع بالإعلان عن افتتاح "كنيس الخراب" اليهودي بجوار المسجد الأقصى المبارك،وما صاحبه من دعوة وزير العلوم والتكنولوجيا الإسرائيلي دانيال هيرشكوفيتس في 13مارس إلى الإعلان عن ضم المسجد الأقصى المبارك إلى"التراث اليهودي"كما حدث مع الحرم الإبراهيمي في الخليل ومسجد بلال بن رباح في بيت لحم.
وقوله نقلا عن موقع"نيوز ون"الإخباري الإسرائيلي:"يجب أن يضم المسجد الأقصى إلى قائمة مواقع التراث اليهودي، وإن لم يكن هناك إمكانية للإعلان عن المسجد الأقصي موقعا أثريا لليهود فيجب أن نقيم مكانه معبدا يهوديا مؤقتا"!!!.
"الخراب" لم يأت هنا فقط كحلقة فى مسلسل تهويد "القدس"طويل الحلقات،والذى عبرت عنه المحاولات المتكررة لحكومات الإحتلال المتعاقبة ومنذ احتلالها الكامل للأراضى الفلسطينية فى تغيير البنية الديمغرافية والدينية للقدس لصالح تغييب الهوية الحضارية الإسلامية والمسيحية عنها وإثبات صحة الادعاء التاريخي لليهود بحقوقهم فيها وخصوصا ما يتعلق بإعادة بناء الهيكل المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى.
لكن أيضا جاء"الخراب"هذه المرة على القضية ككل،كونه بمثابة إعلان واضح من جانب حكومة الإحتلال عن رفضها لكافة مساعى السلام العادل والشامل بالمنطقة،بل وتأكيد مباشر على عجز حكومة"أوباما"الأمريكية فى تقديم الجديد للقضية الفلسطينية ومراوحتها بعيدا عن المربع"صفر" القابعة فيه.
ذلك ليس فقط لإفتقارها أدوات الضغط السياسى على الحكومة الإسرائيلية وفشلها فى حثها على وقف"الإستيطان" ،لكنه كذلك لأن سلطات الإحتلال المتعاقبة لم تضع يوما فكرة إحلال"السلام" العادل كإحدى الخيارات المطروحة أمامها لحل القضية،وهو ما تشير إليه كافة وقائع الأحداث على الأرض، بعيدا عن سحر الكلمات المنمقة والوعود الزائفة.
هاتيك الصورة القاتمة التى تغلف المشهد العام للقضية هى ما دللت عليها تصريحات محمد دحلان مفوض الإعلام فى اللجنة المركزية لحركة فتح فى أعقاب إفتتاح الكنيس، حيث أكد أن:كلمة السر فى نجاح أى مفاوضات مع إسرائيل هى الاعتراف بحدود يونيو67؟!!!.
وهو ما قابله وعلى الجانب الأخر مخطط نتنياهو لإعلان إسرائيل "دولة يهودية" بعد ضم القدسالشرقية والخليل وبيت لحم بالكامل إلى الكيان الصهيونى،ذلك سيرا على النهج "الشارونى" وإستكمالا لما سبق وأن بدأه بخطة الإنسحاب من جانب واحد مارس 2004 وجدار الفصل العازل، ومن ثم إعادة رسم حدود"حلم بنى صهيون الجديد".
وهو ما كان بمثابة المسمار الاخير فى نعش القضية الفلسطينية،حيث قضى به على إحتمالية أى عودة مستقبلية لطاولة التفاوض، خاصة فى ظل تمسك الجانب الفلسطينى بحقه فى وقف الإستيطان والعودة الى ما قبل حدود يونيو67 والقدس كعاصمة لدولته،تلك التى حان الوقت ليعلنها نيتانياهو صراحة كعاصمة لدولة"إسرائيل"الجديدة.
لكنه وعلى الرغم من ذلك، بل وبعيدا عن إستنتاجات مستقبلية للأحداث،فإن وقائع الأمور تشير إلى حدوث ثلاث متغيرات رئيسية أفضت إلى ما عليه القضية الأن،وهى كالأتى:
أولا:تغيير الحكومة الإسرائيلية لسياستها الإستيطانية على الأراضى المحتلة،ذلك كأحدى النتائج المباشرة لحرب أكتوبر1973،حيث فطن قادة إسرائيل بعدها إلى صعوبة البقاء ضمن حدود"محفوفة بالمخاطر"مع فتح أكثر من جبهة للقتال بالمنطقة،التى لا تملك بها حليفا ولو إستراتيجيا.
ومن ثم جاء الطرح"الشارونى"بخطة الإنسحاب من جانب واحد،والتى أعتبرتها (حماس) نصرا مضافا لها،لكنها فى حقيقة الأمر عبرت عن متغير جديد فى الفكر الإستيطانى الصهيونى ربما لم ينتبه اليه الكثيرون حتى الأن،وهو ضرورة البحث عن كيفية البقاء ضمن"حدود أمنة"قدر المستطاع..حدود يسهل السيطرة عليها مقارنة بغيرها،
وهى ما شرعت فى رسمها عبر خطة الجدار الفاصل والعازل،الذى ترتبط فكرته فى الفكر الإستراتيجى الصهيونى بفكرة أمنية بحتة تتمثل فيما يسمى ب"الحائط الحديدى"..أى أن يبنى المستوطنون حائطا حديديا حول أنفسهم لا يمكن للعرب إختراقه،مما يضطرهم للرضوخ نهاية للأمر الواقع.
ثانيا: الفطنة الإسرائيلية لمدى أهمية وضعية القدس فى قضية الصراع بالمنطقة..فالقدس تعتبر هى المحور الأهم في البحث عن الحلول السياسية الدائمة والمؤقتة لهذا الصراع،كما أنها جزء لا يتجزأ من برامج القوى الفلسطينية المقاومة، كذا من إستراتيجية العمل العربى والإسلامى المشترك على مختلف الأصعدة الرسمية والشعبية،أيضا هى عامل الحسم في رسم معالم مستقبل الصراع.
من ثم فإنه وفى ظل التمسك الإسرائيلى باحتلالها والسيطرة عليها يجعل من إمكانية التوصل إلى اتفاق عادل يحقق المطالب العربية والفلسطينية فيها أمرا بعيد المنال،خاصة في ظل الموقف الأمريكى القابل بسياسة الأمر الواقع التى تفرضها إسرائيل.أيضا الفطنة الإسرائيلية إلى إنتفاء إحتمالية إعلان السلطة الفلسطينية قيام الدولة دون حل قضية القدس.
ومن ثم بقاء الوضع كما هو عليه حيث الغلبة لسلطة الإحتلال على الأرض، وهو ما يتسبب بإحراج الموقف العربى مجملا إزاء قبول المشاركة في أى حديث مستقبلا لا طائل منه ما لم تكن السيادة الفلسطينية على القدسالشرقية إحدى أهم نتائج مثل هذا اللقاء.
ثالثا: وفاة الرئيس الراحل ياسر عرفات 11نوفمبر2004وما أعقبها من بدء الصراع على السلطة"الوهمية"بين حركتى فتح وحماس وإعلان القادة"الحمساويين"عن استقلالهم بقطاع غزة وفتح جبهة الشد والجذب مع القيادة المصرية، وما خلفه هذا من نهاية إكلينيكية للقضية مع الحديث عن وحدة الصف ولم الشمل الفلسطينى كبديلا عن البحث فى كيفية الخروج من الوضع الجديد والمأزق الخطير الذى وضعت فيه القضية بل والمنطقة برمتها.
كافة هاتيك الوقائع والمتغيرات المشار إليها هى ما أفضت نهاية إلى الفشل فى إدارة المعركة التفاوضية مع العدو الصهيونى، والتوقف أمام مجموعة من الأحاديث والترهات لا تمس لب القضية ولا تقترب حتى من خطوطها العريضة.
لكنها تدور دائما فى إطار خطوط رسمت حدودها متغيرات عدة أحدثتها إخفاقات العدو المتكررة بدءا من الفشل فى تحقيق حلم الدولة الممتدة من النيل الى الفرات،والتى كان من المفترض لها جمع شمل المشتتين اليهود فى ارجاء العالم، ذلك مرورا بعدم القدرة على توفير حياة سوية للشعب اليهودى خالية من الهامشية والطفيلية.
حيث أن ما حدث هو إنه تم تأسيس"دولة"تعيش على المعونات ولا يمكن لها أن تحقق البقاء دون الدعم المالى والسياسى والعسكرى الأمريكي الغربى،كذا الإخفاق فى إنجاز ما يسمي"ميزوج جاليوت " أى مزج يهود المنفى، وظل المجتمع اليهودى فى الداخل منقسما على نفسه بين العديد من الطوائف مما خلق إشكالية التفرقة الطبقية فيه.
أخيرا وليس أخرا الإخفاق مجددا فى تحقيق حلم الأمن كإحدى نتائج الإنتفاضة الفلسطينية -الأولى والثانية- مما أدى إلى تدهور ثقة الإسرائيليين فى دولتهم ومؤسساتها حتى فيما يخص جيش الإحتلال.
خلاصة القول أن الإفلاس والإخفاق السياسى والعسكرى هو عنوان المرحلة الحالية فى الداخل الإسرائيلى،خاصة مع الوضع فى الإعتبار تدهور العلاقات مع الشريك والحليف الأبرز وهى الولاياتالمتحدة عبر التخبط فى صفوف الإدارة الإسرائيلية، التى أصبحت تقود دون هدف وسوء تقدير للمواقف.
أيضا فإن الخطوة المطلوبة الأن وعلى الجانب الفلسطينى لم تعد فقط سرعة تحقيق حلم الوحدة ولم الشمل، بل وإرتقاء إتخاذ تلك الخطوة إلى مستوى الضرورة وإرتكازها إلى برنامج مواجهة واضح المعالم محدد الأهداف،وهو ما يقتضى وضع محصلة التجارب السابقة أمام أى جهد جدى نحو الإستجابة لتلك الضرورة.
ولعل من أولى تلك العبر وأهمها هو ضرورة الإستجابة الدقيقة إلى نبض الجماهير،وتبنى برنامجها،وهو فى تلك الحالة البرنامج القائم على سقوط وهم المراهنة على التسوية السلمية مع العدو،ومن ثم ضرورة العودة إلى مقاومة الإحتلال والتمسك بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بيوتهم وممتلكاتهم وأراضيهم التى اقتلعوا منها فى1948،وعدم التفريط فى القدس كعاصمة أبدية للشعب الفلسطينى.
كذا فإنه أصبح وعلى الجانب العربى (الجماعى) سرعة التحرك نحو وضع برنامج عمل (مشترك) محدد الأهداف القابلة للتنفيذ بما يتواءم وما وصلت إليه الأحداث،حيث ضرورة البدء فى تغيير الموقف المعلن ولهجة الخطاب التى لا تتعدى الشجب والإستنكار،والبحث فى كيفية الدفع بالقضية خارج النفق المظلم التى وجدت نفسها به،ذلك من خلال استغلال كافة أوراق الضغط المتاحة فى سبيل ذلك.
لكن وعلى الرغم من ذلك يبقى السؤال مطروحا على قمة (سرت) القادمة: هل وجد من ينتبه إلى مدى الإخفاق الصهيونى ومن ثم التحرك لإستثماره لصالح القضية..أم سيستمر هذا الجمود الواضح فى المواقف العربية،تلك التى استغلتها إسرائيل جيدا لتهويد القدس وابتلاع ما تبقى من الحقوق الفلسطينية؟!!.