النموذج الإسلامي المستهدف في غزة عيسى الشعيبي لعل الخشية من التعثر ، والتحسب إزاء الإخفاق ، وتجنب الفشل المحتمل ، تمثل معاً مصدر قوة الدفع الذاتية الأكثر أهمية ، للطالب وهو يستعد لتأدية امتحاناته بنجاح ، ولرجل الأعمال وهو يؤسس لمشروعه الرابح ، وللجنرال إذ يتأهب لخوض معركته بالظفر المبين ، فما بالك إذا كان الأمر يتعلق بإقامة نموذج حكم وإدارة جديد مؤهل ليس فقط للنجاح ، وإنما للمحاكاة والتمثل والاقتداء به من الغير أيضاً. على هذه الخلفية يمكن فهم تحذير السيد إسماعيل هنية من أن هناك مؤامرة لإفشال النموذج الإسلامي المحاصر في قطاع غزة ، وتفهم هذه الصرخة التي تنطوي على دعوة حارة إلى جميع المريدين والأتباع داخل القطاع المأزوم وخارجه ، لدرء خطر إخفاق هذا النموذج الناشئ فوق أقدس البقاع الإسلامية ، ومنع إسقاط التجربة الأولى في الحكم داخل العالم العربي لحركة إسلامية مديدة ، لما في ذلك من مضاعفات سلبية خطيرة ، لا تخاطب حاضر حركة حماس وحدها ، وإنما أيضاً مستقبل أكبر حركة إسلامية سنية. والحق أن هناك مؤامرة كبيرة ، إن لم تكن خطة معلنة على رؤوس الأشهاد ، تتبناها جهاراً جبهة إقليمية دولية مترامية الأطراف ، وتعمل على تنفيذها في رابعة النهار ، بدأت على نحو منهجي متدرج منذ عام ونصف العام ، لإفشال هذه التجربة فشلاً لا يقبل التأويل ، ووأد هذا النموذج في مهده الأول ، قبل أن يشتد عوداً ، ويغدو قدوة يقتدي بها الغير من أجنحة الحركة الإسلامية في المحيط المجاور ، خصوصاً وأن النجاح يغري دائماً بالمزيد من النجاح. وليس من شك في أن حركة حماس كانت تدرك سلفاً أن هناك مؤامرة عليها ، وتعي جيداً أن هناك أيضاً خطة مدبرة للقضاء على مشروعها المثير لهواجس الخصوم وارتياب الأعداء ، بدليل هذه الصرخة المدوية التي أطلقها الرئيس السابق لأول حكومة إسلامية في فلسطين ، من على منبر يوم الجمعة قبل أيام ، محذراً كل من يخاطبهم هذا النداء المشوب باللوعة ، من فشل النموذج الإسلامي القائم في نطاق ضيق من الأرض تحت رحمة أعدى الأعداء وغل المنافقين والمرتدين والكفار. وإذا كان كل ذلك صحيحاً دون مراء ، فإن السؤال هو أين هي مسؤولية حماس في ما يتعرض له هذا النموذج من إستهداف؟ هل تتحمل الحركة الإسلامية المجاهدة قسطاً من نصاب الفشل الذي يلوح في الآفاق؟ وإذا لم تكن قيادتها تعلم سلفاً مدى حجم المؤامرة ، وشدة إصرار الأعداء على إلحاق الهزيمة بها بعد نجاحها الانتخابي الباهر ، ألم تعلّمها التجربة الحية بعد ذلك ، أن دون نجاحها سداً كان ينبغي الاستدارة من حوله ، بدل الإرتطام به وجهاً لوجه؟ أما كان عليها وهي تواجه العنت والخنق والاحتباس منذ البداية ، واجب توسيع دائرة الحلفاء والأصدقاء عوضاً عن زيادة عدد الخصوم ، وعدم فتح مزيد من الجبهات؟ فقد كانت الأشهر الأولى من عمر تجربة حركة حماس في السلطة ، كافية لإجراء المراجعات وفحص البدائل والممكنات ، وإجراء الحساب العسير مع الذات ، واستخلاص العبر المفيدة ، وحفظ الدروس القاسية التي قدمها الواقع المعيش. حيث كان الحصار السياسي المحكم ، المعطوف على حصار مالي دونه خرق القتاد ، يقدم إشارة تحذير مبكرة على أن المؤامرة أكبر من حماس ، وأن المعطيات المحيطة بها غير مواتية ، وأن الرهانات المعلقة في سماء بعيدة رهانات لا تطالها اليد ، وأن الخطاب غير الواقعي الطالع من بطون الكتب القديمة ، خطاب لا يقبل الصرف مهما أحسن مدبجوه صنعة التمويه والتورية والتعميم. وكأن حصاد تجربة الأشهر الأولى بعد النجاح في الإنتخابات ، وحقل أشواك مخاض تشكيل حكومة لم تستطع المشاركة فيها أكثر التنظيمات قرباً من الخطاب السياسي لحماس ، لم تكن كافية لاستدراك ما يمكن استدراكه ، وتصويب الأداء الأحادي التجريبي قبل فوات الأوان ، حتى جاءت تجربة الانقلاب على الشرعية بقوة الحديد والنار ، لتدخل حاضر الحركة الإسلامية ومستقبلها في مأزق أشد هولاً من ذي قبل ، وتدفع بالنموذج الذي كان يلاقي التعثر أصلاً ، ويواجه بالصد والقهر صبحاً وعشية ، في قفص حديدي محكم الإغلاق ، رميت مفاتيح أقفاله في أيد سرّها على الأرجح هذا الاندفاع غير المتبصر على الإطلاق ، نحو الزاوية الأضيق ، أو قل نحو نقطة استعصاء مميتة في رابعة النهار. إذ يبدو أن روح التعصب التي كانت تغذي نفسها بنفسها على المنابر ، ومواصلة التمسك بأهداب خيارات مستحيلة ليست في قبضة اليد ، والإنجراف نحو إغراء منطق القوة بدلاً من الإصغاء إلى قوة المنطق ، قد حمل حماس على مغامرة الاستفراد بالحكم والناس والأرض ، والضرب بالثوابت وتجاوز ما كانت تسميه خطوطاً حمراء ، ومن ثم وضع نفسها وحيدة في مواجهة الجميع ، وتعليق مصيرها على جملة أخرى من المستحيلات ، دون الانتباه بدرجة كافية إلى حقيقة أن هذا المآل الذي مضت نحوه حماس وهي مفتوحة العينين ، قد جاءت وفق ما كانت تشتهيه أشرعة سفن حلف هائل من المتربصين والأعداء ، كانوا يعدون السكاكين ويشحذونها على مهل مهلهم لليلة ظلماء. وعليه ، فإن السؤال الأكثر إلحاحاً لا يتوقف عند حدود ما إذا كانت هناك مؤامرة تستهدف إفشال النموذج الإسلامي في غزة ، بل تتعداه إلى التساؤل عما إذا كان هذا النموذج قد فشل مبكراً في واقع الأمر ، وأن العناد والمكابرة والخشية من اللوم حالت دون الإقرار بفشل هذا النموذج وهو في طوره الأول بعد ، لا سيما أن الحديث يدور الآن حول ما بعد إنقضاء مرحلة حماس التي تطفو فوق بحر من الكراهية والعداء ، وأن المناقشات قد انتقلت إلى بحث تداعيات إنهيار النموذج الذي أقامته حركة إسلامية لم تستطع الوفاء بأثمن ما جاء في وعدها الانتخابي من تغيير وإصلاح ، ولم تتمكن لأسباب ذاتية وموضوعة من حل أي من المشكلات التي واجهتها ، ولم تستطع النهوض بمسؤوليات السلطة التي تجشمت حمل وزرها ، ولم تستبق من خيار المقاومة لديها سوى الشعار. لم تدر حماس التي باتت مقراتها تُرمى بالحجارة الآن ، أنها قدمت بإنقلابها الدامي نموذجاً مرعباً للحكم ، ليس بالنسبة للفلسطينيين وحدهم ، وإنما أيضاً للمحيط العربي المجاور ، الذي روعته مشاهد القتل والسحل والفتك ، والاستباحة للمقرات ، وإلقاء خصومها من على أسطح الأبراج السكنية. فقد بات لسان حال الإنسان الذي شاهد كل تلك الصور المرعبة يقول لنفسه: هل هذا هو النموذج الإسلامي الذي وعدنا به هؤلاء؟ هل هكذا ستتعامل معنا تواءم حماس إذا ما استقر لهم الحكم هنا أو هناك؟ من سيمنح بعد اليوم صوته لمرشحي حركة أو حزب إسلامي لا يؤمن بالديمقراطية إلا لمرة واحدة ، إلى أن يصل إلى سدة السلطة ، وبعد ذلك كفى الله المؤمنين شر الانتخابات؟. لقد كانت الأكثرية الكاثرة في الجوار العربي ترى في حركة حماس الممنوعة من تفعيل شعاراتها ضحية تستحق التعاطف والإحتضان ، وتجد لها بعض الأعذار فيما كانت تقدم عليه أحياناً من ممارسات تفتقر إلى الرشد والصواب ، وذلك إلى أن انقلبت على نفسها ، ضد شرعيتها ، ضد قانون الأشياء ، فضلت سواء السبيل ، وتحولت من ضحية إلى جلاد راح يقلد الجلاد الأكبر ، ويحاكي عسكر الاحتلال ويتماهى معه في بعض التصرفات ، مثل سوق الأسرى وهم عراة ، وفض المظاهرات بالقوة ، وتكميم الأفواه ، واستدعاء أسوأ ما تختزنه الذاكرة العامة من مشاهد أليمة ومقارفات إسرائيلية دنيئة ، كتكسير العظام ، وبتر الأطراف ، واستخدام ما يشابه المستعربين في الاقتحامات ، وغير ذلك مما كان غير قابل للتصديق لو لم تبثه الفضائيات بالألوان. فهل من الممكن بعد اليوم الحديث عن استهداف النموذج الإسلامي في غزة ، بعد كل الذي جرى على مدى أشهر حافلات بالتعثر المبكر ، ومن ثم الإخفاق والفشل والإنهيار؟ وهل يجوز لوم الآخرين ، فيما ارتكب أصحاب النموذج بحق نموذجهم أسوأ الأفعال ، وشوّهوه بأيديهم ، ثم أوقعوه على الأرض ، تماماً على نحو ما أوقعوا نصب الجندي المجهول وعدوه صنماً من الأصنام؟. وحقاً فإن سدنة هذا النموذج الذين اختطفوا قطاع غزة كرهينة ، لم يستطيعوا في واقع الأمر حل أي من المعضلات ، ولا الإجابة على أي من الأسئلة الملحة أو التساؤلات ، ليس لأنهم يفتقرون إلى الرغبة والإرادة الحسنة والتصميم ، بل لأنهم بكل بساطة لا يستطيعون ذلك ، وليس لديهم القدرة أساساً وغير مؤهلين. فإدارة المسؤولية عن شعب ليس كإدارة جمعية خيرية أو دار أيتام إسلامية. كما أن المؤامرة ، كما قلنا قبلاً ، أكبر من قدرة حماس ، أثقل من طاقتها على الإحتمال. فلا هي تستطيع فتح معبر مغلق ، ولا الدخول من باب حوار مع من تصفهم تارة بعصابة رام الله وطوراً بالعملاء والمرتدين ، ولا في حولها تسويق هدنة طويلة الأمد لدى عدو سعيد بعرض مثل هذه البضاعة البائرة ، التي لا يقبل عليها المشترون. يبقى أن أشد ما يخشى منه حقاً ، هو أن تكون المراجعة الإضطرارية قد تأخرت أكثر مما ينبغي ، وأن الإستدراك قد فاته الوقت ، وذلك بعد أن بات استمرار هذا النموذج المعلق من رؤوس أصابعه مسألة وقت تتحكم إسرائيل بتوقيتات حياته ومماته ، وغدا رهينة بين أيدي أعدائه كما هي غزة الآن ، وتحول مع مرور الوقت إلى نموذج للعزلة والقمع والحصار والفقر والاختناق ، وآل إلى قدوة لا يقتدى به ، ولا يتمناها الطلاب والحجاج والمرضى والصناعيون ومئات آلاف العاطلين عن العمل ، وكل من روعهم شلل الحياة وانقطاع الكهرباء ، ومصادرة الحريات ومنع التعددية السياسية وحرية التعبير ، وتحصيل الفواتير والرسوم بقوة السلاح ، وهالهم كل هذا التجاوز على الثوابت والحقائق والمحرمات. عن صحيفة الدستور الاردنية 4/9/2007