الممرضات البلغاريات كشفن على القضاء العربي المصاب! حمد الماجد كنت أرقب بحسرة وأسى نظام القضاء العربي وأنا أتابع هذه الأيام اعتراضات الاتحاد الأوروبي وفرنسا وأمريكا وعدد من جمعيات حقوق الإنسان العالمية على حكم القضاء الليبي (الإعدام ثم تخفيف الحكم إلى المؤبد) الصادر بحق الممرضات البلغاريات اللائي أتهمن بحقن فيروس الإيدز في أكثر من 400 طفل ليبي بريء ، منهم من قضى نحبه وعددهم خمسون ومنهم من ينتظر، وقد تجاوز الغربيون الاعتراض إلى المطالبة الصريحة بالإفراج الفوري عن الممرضات في إشارة تدل على احتقار النظام القضائي الليبي. الأطفال الأربعمائة المصابون بالإيدز كارثة موجعة ومصيبة إنسانية أليمة، ولكن الأكثر كارثية والأشد إيلاما تلك الجراثيم المرضية الخطيرة التي تفتك وتنخر بالنظام القضائي في عدد من الدول العربية إلى الحد الذي جعل غيرنا من أمم كوكبنا تسخر بنا وبقضائنا العربي ولا تثق بنزاهته أو استقلاليته، وهذا ما يفسر ردود الفعل الغربية المعترضة على حكم القضاء الليبي ضد الممرضات البلغاريات، وهو نفس موقف الغربيين مع حالات كثيرة مماثلة مع دول عربية أخرى وبصورة تكاد تكون مستنسخة، غربيون في قضايا جنائية تصدر بحقهم أحكام قضائية عربية تعترض عليها حكومات ومؤسسات غربية وينتهي المطاف بنقض الحكم القضائي العربي الصريح وإطلاق سراح هؤلاء الغربيين! أنا لست مع الذين قفزوا على نتائج التحقيق في الجريمة التي ارتكبت في حق الأطفال الليبيين المساكين وعائلاتهم المكلومة فراحوا يطالبون بتطبيق أقصى العقوبات بحق الممرضات البلغاريات، واعتراضي على هؤلاء ليس لأن الممرضات بريئات، فهذا أمر لا يملك أحد البت فيه غير التحقيق والقضاء النزيه المحايد، المشكل هنا أن انعتاق القضاء في ليبيا وفي عدد من الدول العربية عن تأثير صانع القرار السياسي أمر لا يمكن أن يصدقه أحد، وإذا كانت بعض الشعوب العربية لا تثق في نزاهة قضائها فمن باب أولى ألا تثق فيه الحكومات الغربية وشعوبها. لم يدرك عدد من الساسة العرب أن نقض الأحكام القضائية الصادرة بحق غربيين وغربيات بغض النظر عن صحتها أو خطأها أو عدلها أو ظلمها استجابة للضغوط الغربية هو بذاته إقرار ضمني بعدم الثقة في النظام القضائي في دولهم، ولكي تكون الصورة أكثر وضوحا دعونا ننظر إليها مقلوبة، فلو أن ممرضات عربيات يعملن في مستشفيات هولندية مثلا واتهمن بحقن مرضى هولنديين بفيروس الإيدز وصدر الحكم عليهن بالسجن المؤبد، فأكاد اجزم أن قادة الدول العربية التي ينتمي إليها هؤلاء الممرضات لن يجرؤوا على إثارة الاعتراض لدى الحكومة الهولندية لأنهم يعرفون يقينا أن القضاء هناك مستقل بشكل كبير عن تأثير الإرادة السياسية، وأما ما نسمعه عن جهود بعض الدول العربية للإفراج عن مساجينها في الدول الغربية، فهو سعي من خلال الأطر القانونية وليس عبر تأثير ساستها في أحكام قضاتها. وحتى تكون الصورة أكثر دقة ووضوحا، لنترك حالات المساجين الغربيين في الدول العربية كدليل على قصور النظام القضائي في عدد من الدول العربية وفقدانه لمصداقيته لأن هناك عوامل دينية وجغرافية وتاريخية واستعمارية ستؤثر على شعوبنا العربية في نظرتها لأساس المشكلة، ودعونا نفترض أن القضاء الياباني أو الألماني أو السنغافوري هو الذي حكم بالمؤبد ضد ممرضات بلغاريات في حالة مشابهة، في ظني لن تكون هناك مطالبة غربية بنقض الحكم أو تخفيفه، وأما المطالبة بالإفراج الفوري فستكون مطالبة سخيفة تربأ الدول الغربية بنفسها عن المطالبة بها إلا مع الدول العربية فقط. وسواء كانت إصابة الأطفال الليبيين بمرض الإيدز سببه إقدام الممرضات البلغاريات عمدا على حقنهم بالفيروس، أو كان السبب الحقيقي هو الإهمال في المستشفى الليبي الحكومي، فالحقيقة المرة المؤكدة تبقى في أن عددا من الحكومات العربية أضعفت أجهزتها الرقابية وجعلت برلماناتها صورية باهتة والتفتت إلى أنظمتها القضائية فجعلتها تحت تأثير ساستها في عملية تخصيب متخلفة أنجبت قضاء لا تهابه شعوبها ولا تحترمه حكومات الشرق والغرب كما في أزمة الممرضات البلغاريات وغيرها في الدول العربية الأخرى حالات كثيرة. عن صحيفة الشرق الاوسط 23/7/2007